من باب التجريب و التجريف، و التتابع هنا مش للتلاعب بالكلمات و إحداث جناس ناقص ملح أو تربية، لكنه صدقا تداعي و في لُبّ الأمر، قررت أكتب بلا ترقيم. أقصد بلا تفصيص و لا تخصيص للمكتوب في شكل فقرات مُرقَّمة أو معنونة. بلا ترقيم مش بلا علامات ترقيم. الأمر إنه أنا بادئ بكذبة و مش هاعتذر عنها لإنها جميلة، و هي العنوان. في رأسي أمر لما يتكتب هيكون أقرب للحب في نص الطريق. مكان مش زمان. و نص الليل رغم إنه نصفه فلكيا لكنه واقعيا مش نصفه أبدا، واقعيا حيث كيف يفهم الإنسان الليل و كيف يتعامل معه، على الأقل في مصر، و مش دائما و مش في كل مكان لكن في مصر كلما قرّبت من المركز كلما تشابه الليل و النهار، و تشابهت العدالة و الظلم و تشابه الخير و الشر في أكبر سيرك مفتوح للجنون الجماعي أو فقدان الاتجاه. باحاول أشغّل ميترونوم أو بوصلة في دماغي كلما تسرّبت الكلمات في اتجاه خاص بها أحاول أن ألتزم بالزمن و بالاتجاه. نعود: .. أقرب لنصف الطريق مش الليل. مش أقرب مسافة بين نقطتين خط مستقيم، و دا ما اتعلمتوش من الهندسات اللاإقليدية في الأساس، اتعلمته من الحُب، و متاهاته، و قدرته على الحشو و الملء و الإنهاك و المراوغة حتى لأكثر لاعبي الشطرنج تخطيطا للنقلات القادمة. قبل ما تشتهي القفز لاستنتاج إني باتكلم عن الحُب التقليدي بين رجل و امرأة فخليني أطمنّك إنه أنا باتكلم عن الحب التقليدي بين رجل و امرأة، و هو فيه حُب مادّي أكتر من حُب رجل لامرأة و العكس؟ بنته أو حبيبته أو أمه و العكس؟بس دا إطلاق و تعميم لا أقصده أيضا. الحُب كما أقصده هو علاقة يجب أن يتوفر فيها نقص يستدعي الجذب و التكامل، سعي دائم لا يهدأ للارتماء بين ذراعين أطول و أكبر من الطرف اللي أمامك، و في اللحظة اللي بتقدر تفسر الذراعين بإنهم كينونة ما لإنسان سابق أو لاحق بيتوقف الحُب أوتوماتيكيا عن الحركة. اللغز بيتم حله و المتفرجين ما بيكملوش الفرجة. أعود: مش أقرب مسافة بين نقطتين خط مستقيم إلا في عالم المثلث المستوي. و المكان بيقدر يعيد تعريف الزمان حتى على الصعيد الاجتماعي و بلا الاحتياج لأبرت أينستاين. و أي خلل في العلاقات بين الاتنين بيعيدوا تعريف الآخر، و موقفنا و موقعنا منه. هناك ميل أنتجته الفلسفات العقلانية لاحتقار المشاعر باعتبارها موضوعات تجربة و تفاوت، و هناك ميل عند الفلسفات الذاتية التجريبية لاحتقار العقل و اعتبار إن المشاعر، الأحداث الجزئية هي المادة الحقيقية للعالم، و لا يمكن فهم العالم خارج منطق التجربة. اعتبار إنه فيه إنسان لديه فُرَص علمية أفضل في فهم الحقيقة و في فهم العالم بينطوي على فهم قابل للقياس الطبقي بيقول إن من لديهم موارد و أدوات و ثروة هم بالضرورة يمتلكون الحقيقة. و الحقيقة إن هؤلاء امتلكوا كل شيء ما عدا الحقيقة، الحقيقة اللي بيمتلكها المحرومين من كل شيء سوى الحقيقة. و هل فيه حقيقة أكثر من الفقر؟ من الحرمان؟ من الجوع؟ من الرغبة الغير متحققة؟ من النقص؟ من الموت و من سفك الدم و من القهر و الاستغلال و الاحتلال؟ هل فيه حقيقة زي حُبّي ليكي اللي غير قابل للكسر، و غير قابل للاكتمال؟ لإنه حدث ذات يوم في نصف الطريق و في نص الليل؟ الصدفة لا يمكن فهمها تماما و لا يمكن بناء نظرية غائية حولها، مفيش غير محمود أمين العالم ممكن يكلمنا في الرطوبة دي عن الصدفة بهدوء و ابتسامة عالم فعلا. الصدفة غير مفهومة زي الشعور الغلس اللي باحاول أكلمك عنه، و اسمه الحُب، و كل مرّة بيتم إنتاج وحدة منه بيتسمّى الحُب رغم إنه مفيش حُب، حُب فعلا يشبه الحُب الآخر بنسبة تزيد عن خمسة و أربعين في الميّه، اللي هي تشكّل الأساسات، المواد الخام المكوّنة للحب. مش أقرب مسافة بين نقطتين هي خط مستقيم و مفيش طريقة محددة و نهائية و موصوفة أقدر أقول بيها إني باحبّك و أكون مُقنع، لإنه خلينا صادقين يعني، إيه المُقنع أو المعقول في الحُب؟ مفيش طريقة موصوفة و نهائية طول ما أنا مش أمامك، و بكامل شجاعتي الخجولة خلف الورقة و القلم. عند الإنسان نازع ملعون للعقل، للاستقرار، للمترونوم و للبوصلة و من حقه، عشان يقيم الحضارة محتاج الساعة و البوصلة و المسطرة، و في نفس الوقت عشان يقيم هذا العاقل اللي ما بتطلعش منه العيبة الصراع، خلق الحسام و المقصلة و القنبلة و الحرب. كُنت أتمنى الحضارة تستمر لحد الفجر، لكن المواصلات، و الحر، و اللاتكافؤ، كلهم انتصروا للحرب، انتصروا لإن الحُب يُعدم في نص الليل.
ما لا قوت
سريعة المفعول، طويلة المدى.
السبت، 9 أغسطس 2025
الجمعة، 8 أغسطس 2025
اعطيني خمس دقايق بس..سمّع ع الموسيقا.
بداية
لن يمكنني الجزم أنّي أخّرتُ الكتابة عن الأستاذ زياد عمدا. أقصد أني حتى لو افترضتُ ذلك فلا يوجد من يحاجنني بالعكس أو من يؤكّد صدق ما أقول. فليس لي سوابق في الكتابة المقالية الموقوتة، أي التي من المفترض أن تُنشر في وقت معين بالذات من كل أسبوع/شهر، هكذا. أي أن لا حظّ لي من التراكم، أو سابق المعرفة المتبادل بيني و بين جمهور ما. أنا لا أكتب لإني كاتب، موضوعي، مُحترف، أعتاش من الكتابة. أنا أكتب بصفتي رجل من الطبقة العاملة، أحب الكتابة، حين توخز كالسكّين داخل صدري. سأحاول أن أجعل هذا حصرا دافعي و مُحرّكي حتى انتهاء النص إن شاء الله.
أما بعد
يمكنك أن تحزر ما قد يؤدي بالإنسان لتجنب الانخراط في مهرجان الرثاء القائم حاليا، و هو صادق أكثر من ديما بكل تأكيد. بشكل شخصي أجد أن كتابة الانطباعات أو الذكريات الشخصية و كسائها كسوة التأريخ الموضوعي هو نوع من (النصب). لا أقول أن كتابة الانطباعات رديئة بالضرورة أو أقل أهمية أو جودة من الكتابة الموضوعية التي تنصبّ حول الموضوع و الوقائع ثم استخلاص الرأي بناء على الموضوع نفسه. و حسب الذات في هذا النوع من الكتابة أنها تقوم بالتدوين لصالح (الموضوع) أو أنها تقوم بالإعلان عن نفسها باعتبارها جزء من عيّنة للبحث و تقوم بمشاركة رأيها بخبث شديد. لذلك، أود، لعدم موضوعيتي، ألا أنخرط في هذه الثنائية المستهلكة. أعدك أيضا أيها القارئ الغير موجود أني لن أقوم بتعديل هذا النص لاحقا ليناسب هذا الموقع أو تلك الجريدة الإلكترونية. سأحاول في هذه القطعة القيام بنسج ضفيرة، أتمنى أن تكون تلقائية و صادقة، من الحديث الشخصي و من الحقائق الخارجية بحيث يشكل كلاهما الخارج و الداخل الحقيقة الموضوعية الذاتية سويا.
أحرص بالأساس على أن أبتعد عن الزحام لا رغبة في الاختلاف أو التميّز و لكن رعبا من الكذب، حتى غير المتعمّد منه. للمشاعر المباشرة قابلية أكثر لانعدام الوجهة و من ثم ميل أكثر للتحلل و ضياع الهوية و المعنى و المجهود. لأ. خليني على مهلي. أصلا كل اللي كان يقتضي السرعة انقضى..رحل زياد الرحباني بالفعل، و مهما حاولت تقرّب المسافات حتى تقابله تشكره أو تعبّر عن حبك أو امتنانك انقضت و تقلّصت للصفر. هناك فرصة وحيدة للاجتماع بزياد الرحباني الآن و هي أن أكف أنا أيضا عن الوجود بجسدي في هذا العالم. أي أن الإمكانية الوحيدة الممكنة الآن هي في انعدام أي إمكانية من طرفي أنا أيضا.
تعليقات على ما حدث
ينقسم ما كُتب حتى هذه اللحظة عن الحدث، و أدّعي إني ألممت بجزء كبير منه، لخطين. الخط الأول يُشكّل حوالي تمانين بالميه من المكتوب، و هو الخط الذي يُعلّق أو يعزّي مقابل أجر، معلش خلينا نحط النقاط فوق الحروف قدر الإمكان. يكتب/تكتب مقالا، في جريدة أو في مجلة أو في موقع ما، يشاركنا كيفَ شكّل الراحل وعيه و طفولته و شبابه..إلخ، و يتقاضى أجرا مقابل إخبارنا ذلك، مقابل إخبارنا ما نعرفه كلنا بالضرورة، و ما شكّل عصب حزننا الشخصي جدا ( و الصادق جدا، و أنا لا أكذّب حتى الكذّابين الذين حضروا العزاء لإني لا أفترض سلطة ما أكسبتها لنفسي داخل رأسي تعطيني القدرة و الحق في تقسيم المُعزّين بحسب صدقهم أو موقفهم السياسي، لإنه يا جماعة، اجتماع العزاء نفسه طقس (اجتماعي) بالتعريف مهما كانت رمزيته). و طبعا لما أصبحت هناك أكثر من حكاية تأثير، تقدر تشوف نقطتين في نفس الوقت في النوع دا مما كُتب:
- القصة شبه الموحدة لدى الجميع عن طبيعة التأثير اللي حصل لهم.
- تباري في جعل كل قصة يبدو فيها الإنسان أكثر تأثرا من الإنسان الآخر الذي نشر مقالا في نفس الغرض بنفس الطريقة و يمكن في نفس الجريدة.
و يبدو إن قانون العرض و الطلب يجري على كل شيء حتى أخبار الوفاة و الحوادث. هذه الجريدة تحقق مبيعات تاريخية، و هو خبر جيد لأي صاحب رأس مال، حتى لو كان فريدريك إنجلز في عليائه، بسبب المواد المنشورة في تحية و رثاء الراحل. طبعا من حقك أيها القارئ أينما كنت تمتعض و تسأل كأي إنسان يفكر بالثنائيات إنه كان البديل ما حدش ينشر يعني؟
و كأي كتابة رثائية فهي تعج بالمشاعر، و لأن الطلب زيادة، و محتاجين لمواد رثائية، فالقصص و العواطف تُرمى عليك من هنا و هنا، و طبعا، حتى لا يصبح الجميع يكرر الجميع، فكل قصة و كل كتابة تحمل مزيدا من الفذلكة و القصدية، أو على النقيض إسهالا لا ينقطع من القصص، و هي حالة غريبة على كل حال. السيد حسن أثر فينا كلنا، و كلنا لنا قصص مع الست فيروز، و بعضنا له مع عبد الحليم و أم كلثوم، و نادرا هاني شاكر. أنا لي قصص شخصية مع الأستاذ زياد الرحباني_ كنت باقدر أقول زياد الرحباني في حياته باعتبار أملي لم ينقطع بعد ساعتها في ملاقاته، لكن “الأستاذ” تذكرني دائما أنه لم يعد هنا، بدون فذلكة أو حذلقة من نوع لم يعد معنا بجسده_ و لي قصص مع أحمد عدويّة و مع الشاب خالد. بالطبع المسألة مختلفة في حالة الأستاذ زياد، و أنا أصلا لا أذكر هذه النقطة بقصد التقليل من صدق هذه القصص أو من تأثير الأستاذ زياد. لكن لإن هذه القصص بالذات شخصية و جماعية في آن، لا يجب أن تُكرس. يجب أن تحتفظ بما بها من سرية و شخصية إن أمكن. لدينا هذه النزعة في تحويل الإنسان، لإله، بمجرد أن يموت. كأننا نصنع عقدا خفيا قوامه: كن عظيما و مؤثرا قدر استطاعتك، سنحبك، كمعجبين، كُمكبرين و مُبجلين، لكننا لن نحاول أن نعرفك كإنسان طالما حييت. أنت (فنان). أنت (عظيم) لكنك لست إنسانا بالضرورة، لكن ارحل عن عالمنا، نعدك أننا سنخلق منك إلها و نتققاتل حولك.
العشرين في الميه الباقية مخصصة للجماعة محترفي الكتابة، أحب أسميهم علماء موضوعات الإنشاء. هما يشكلون عشرين في الميه ممن كتبوا عن زياد الرحباني، و لكنهم يشكلون حوالي كل في الميّه ممن يكتبون و ينشرون في العموم. أيضا يشاركوننا ما هو معلوم من الأشياء بالضرورة، حتى لم لم يعرف أو يقرأ سوى الحكمة أسفل التاريخ بالرزنامة. هم محترفون لإنهم يأخذون المشاعر التي كتبها التمانين في الميه ثم يجعلونها حقائق، يتحدثون عنها و كأنها غير صادرة عنهم. هم يكتبون تأبينا و ليس رثاءا.
لن تجدني أناقش حكايات الناس أو حزنهم أو رثائهم المنشور في مساحات شخصية غير هادفة للربح. هؤلاء هم الحقيقة، الذين أحبوا إنسانا لم يقابلوه و لم يعرفوه، و أحبهم، و دافع عنهم و آمن بهم و ضاق بهم لكنه لم يغادرهم أبدا حتى النهاية. ستجد هؤلاء المعتّرين في لبنان و في مصر و في سوريا و في العراق لإن (المعتّر بكل الأرض دايما هو ذاتو)، ستقابلهم في الشارع بعَبَلهم و حرمانهم و أحلامهم المحطّمة. سيماهم في وجوههم و على ألسنتهم لا يقدرون على اتباع الأعراف الخاصة بالتحرير الصحافي، و لا يكتبون المقالات بالكيلو و لا يمارسون المشاعر طبقا للأكثر مبيعا.
عم تبحثوا؟ ما تبحثوا .
أسهل شيء في الدنيا هو الكتابة عن فنان كبير بتحبه. سهل حتى لو ما بتعرفش تكتب، أو بشكل أدق، سهل أكثر بالذات لو ما بتعرفش تكتب. ليه سهل؟ لإنه مفيش أسهل من تعداد الذكريات. صحيح مش كل الموسيقيين اللي هتحبهم هيخلوك أكثر (وعيا) بالضرورة، و لكن هو لو إنسان موسيقي خلّاك أكثر وعيا، و فضلت إنت و اللي بجانبك كلاكما يعاني من الآثار الجانبية لهذا الوعي بلا فعل، شو نفّع الوعي و البكي؟ الكلام سهل و التصرفات شحيحة. أقدر أعبّر لك عن حبي في مكالمات طويلة، ممكن أكتب قصيدة حتى (هو الكلام بفلوس؟ لأ لو كنت من الطبقة العاملة.) لكن حُبّي ليكي يتشخّص في قلّة كلامي معاكي بالذات. كل ما زاد الحب قلّت القدرة على التعبير عنه. بيحب الناس يفكّروا في الفنون باعتبارها تمثيل لمشاعر ، مش إن الفنون أصلا جزء من صناعة المشاعر مش التعبير عنها. المشاعر بتُخلّق في الفنون، و الفنون اللي (بتعيد تمثيل) المشاعر بنسميها كلنا بدون اتفاق بالمبتذلة، المصطنعة. فالشعر مش لحظة تحويل للشعور لكلمات موزونة مثلا، و الموسيقا مش (تعبير) عن الحزن أو السعادة أو التوتر أو الانتصار أو الغضب. هي إعادة خلق للعالم من جديد نتلقّاه و نعيد بناؤه عبر خبرات سابقة. مش خلق من العدم طبعا، خلق من وحدات بناء موجودة و مُجرّبة و قابلة للتكرار و الفك و التركيب و الترتيب. لكن الكل أكبر من مجموع أجزاؤه و الخلق أكبر من الوحدات المخلوقة منه مخلوقاته.
ما زلت بتبحث عن الرابط يا صديقي، و أنا أصلا حاولت أوضح لك إنه أنا مش هنا لرثاء شخص كنت و ما زلت باحبه. أنا لست بصدد التعبير عن مشاعري أو تاريخي الشخصي أو عن زياد الرحباني. أنا هنا، فقط، لأمارس الوجود مفكرا و حزينا مش بسبب شخص أو أهمية شخص أو لستة طويلة من المقدمات المنطقية اللي تبرر الشعور ما بالحزن أو بغيره. ٍ
الحياة بمنطقها المتعرّج و المتكسّر كحواري القاهرة لم تسمح لي _ إمتى الزمان يسمح يا زياد؟ الزمان: لأ_ إني أقابله، شفته ع البيانو من ورا الشاشات، و شفته في حفلة في القاهرة في العام ألفين و تلاتاشر. و مش مفترض إني أتحايل على هذا التعرّج. التعرّج محتاج تكسير و بناء و خطّة من أول و جديد. إعادة لما يمكن أن يُعاد أو يُحسّن بالتراكم، لكن الزمان خطّي و يمشي للأمام فقط و نحن خلفه. ممكن أتقمّص هذا التعرّج و أكون جزء من التخبّط. الناس بتمدح الصدق في الأشياء، لكنهم كذابين أربعة و عشرين ساعة زي الصيدليات و السوبرماركتات.
و لو أعطيتهم الصدق الخام بدون معالجته بينفروا و يهرعوا من عدم انتظامه، و من الشوائب الداخلة في تركيبه. لذلك الآن أنا لا أقوم بإعطائكم الصدق، الآن لا أقوم بإعطائكم أي شيء تريدونه، أو عليه الطلب، أو يدرّ ربحا، حقيقيا أو معنويا.
ما دام أحلى وردة بتموت
مصدّق إنه كثيرين من اللي قاموا بكتابة الرثاء و الحزن لم يحزنوا لغزة أبدا، غير طبعا عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لا تشكّل لهم المجاعة و الإبادة و آلاف البني آدمين و الحيوانات و الشجر و الحجر تم مسحهم من الوجود هما ماديا متجسدا. صاروا صدى. طيب إزاي أصدّق مشاعر هذا الإنسان؟ مش مطالبين الباقيين على قيد الحياة و أنا واحد منهم بإجراءات تطهّرية تثبت مدى تأثرهم. في العالم الآن حيث المجتمعات هي أفراد كثيرة و كل يدور في ملكوته و حول شمسه الخاصّة، يمارس البني آدمين أشياء صغيرة تعبر عن الحزن، أو عن الموقف، يهمنا الموقف أكثر من الفعل نفسه. يهمّنا أن الآخرين يرون أننا لسنا مذنبين، حتى لو كان دا في حد ذاته أكبر تأكيد إننا عارفين إننا مذنبون، بل منقوعون في مياه الذنب بالخل و الملح و البهارات على الأقل يوم كامل و تُركنا في الثلاّجة في انتظار أن يتم طهونا. لا أقول إنهم كاذبين في حزنهم، أنا باقول إنهم كاذبين في صدقهم.
غزة و السودان و لبنان المقاوم و سوريا. هل يمكنك بناء جملة حزينة أكثر من ذلك بدون استخدام أية توابل غير حرف العطف؟ دي اسمها عبقرية الإبادة. عبقرية الشر الإمبريالي. عبقريته إنه تسمع الدم بينزّ من الحروف. عبقريته إنه تلعن أسماء أعلام أخرى هي كل من عداهم. سامع الإمارات؟ سامع السعودية؟ سامع المعابر المقفولة من الناحية التانية؟ ها؟ سامع القصف؟ سامع الطلق؟ مش سامع غنّية راحوا؟
بيحب الرفاق التحليل العلمي للمذبحة، و تفصيل و تفسير العالم و ترتيبه فوق أرفف المكتبة و أرشفته. بيحبوا دي كلمة عاطفية و لكن في الحقيقة هما غير قادرين على الحب، هما قادرين على الجُبن، و على تحويل الدماء لبنوك معرفة، و في اللحظة دي بالذات بطّلوا يكونوا رفاق. الرفاق اللي لا يعرفون الجوع، و لا يعرفون الفقر، و لا يعرفون أي شيء واقعي حتى السكوت في آخر كلمة “موت”. إنت ناقم ع الجميع؟ و ليه لأ؟ حتى نفسي. طبعا في انتظار الممكنات، الرفاق في انتظار اللحظة التاريخية، في انتظار ضرورة التاريخ، في انتظار الفرج و في انتظار الشيك و الراتب يا ابني هو إحنا هنعترض على قضاء الله؟
دايما بالآخر..في آخر.
آه! بتصيبني حساسية من المفارقات. المفارقات المقصودة. التضمين إن كنت دقيق. نوع من الأسلوب في الكتابة عموما عن المشاهير بيحتوي على اقتباسات من أعمال الراحل ما، ثم بناء جملة منها، أو حولها. عموما هذا العرض-مرض بيكون مفهوم في ظل الصخب و الحاجة للكتابة و الازدحام و التنافس و المزيد من الصخب و الرغبة في الاستعراض أو إضفاء جو من الحكمة توحي بحِرَفيّة. كل ما ظهر نمط و تكرر و ازدحم بيفقد المستمعون الرغبة بشكل لا إرادي في الاستماع، و لما بيكون النمط أو الفورم ذهنيا بالكامل و ريحة الشعور مش مشمومة فيه حتى بواسطة أحدّ أنف لكلب راعي ألماني باحث عن روايح المعنى في الشنط و في السراويل و حول السيارات. من ناحيةِ أُخرى، ممكن تلخيص جزء كبير في التفاعل المكتوب سواء بالعواطف أو بالأفكار أو أشباه الأفكار في إنه محاولة لتكتيف و تكييف و تأييف و تكفين _ إذا شئت_ شخصية و حضور الراحل في صيغ يفهموها تعينهم على أدلجة الحُب. كبيرة المزحة هاي! و كبيرة مش لإنه عاصي على الشرح، و لإنه (عبقري)، هذه الكلمة المستفزة جدا و اللي بنحب نقولها عشان نألّه الإنسان اللي بنحبّه، و يمكن عشان نعزّي نفسنا بشيء من الألوهية أو النبوّة، لإننا محتاجين ليها في وقت فقير و ناشف. هتسألني يعني مش شايف زياد الرحباني عبقري؟
بيعزّي الإنسان نفسه بإن فن الأستاذ زياد الرحباني باقي. صح. حقيقي. و لكن زياد الرحباني نفسه رحل. العبقري الفنان متعدد المواهب المسرحي الموسيقي السياسي المُعلّق السياسي ما رحلش. لكن زياد الرحباني نفسه، إنسان كان نفسي أتعرّف عليه مش على فنّه رحل. هو الموت بقا صعب الفهم و لا إحنا اللي بقينا أغبى مع كثرة وسائل الكلام و التعبير؟ ليه كل الحاجة دي للعزاء؟ لماذا مرعوبين من الحزن؟ عشان يمكن اعتادتوه مع الشهداء في كل ركن؟ و لا لإنكم بتسترزقوا من ورا الموت عبر التعبير؟ أصدق شيء ممكن يتقال عن إنسان مات هو الله يرحمه. و أصدق شيء ممكن يحصل في أعقاب الوفاة هو الحزن و القهرة و البكا، و الصمت. ما هو فيه ناس حظها قليل لدرجة إنه البكاء بالنسبة لهم ترف، أو حلم. اعذروني يا شباب. لا توجد حكمة من الموت، لا يوجد مغزى من وفاة الإنسان في وقت معيّن. الموت كان و ما زال أكبر و أعنف من رغباتنا في احتوائه، و مفهوم، لإنه ش أبدا دورنا إننا نسيطر على اللي شغلته يحتوينا و ينهينا و يجهز علينا و يخفي أثرنا بعد مدّة مهما طالت. بيحاول الإنسان يعمل كدا، يفهم الموت، و من ثم يفهم الحياة تماما، و من ثم يحط الإنسان في قوالب ثلج و يحطّه ف الفريزر. الإنسان و الموت أكبر من الرثاء، و أكبر من العزاء.
الجمعة، 8 مارس 2024
بلا خُطّة كتمشية طويلة
الشارع الرئيسي
ما قابلتش إنسان قادر بمنتهى الهدوء و السلام النفسي يترك عُقدة خيط أو كيس غير لما ينتصر عليها بعد حرق دم و شدة أعصاب، يفكّها يعني، بدون أي غرض من فعل التفكيك و التفتيت دا غير غريزة ما و صوت غير مسموع إنه هناك رضًا عميق و (عدالة) تتحقق بفكّ العُقدة و الرُباط الغير مقدّس. إزاي بيقدر الإنسان يبدأ شيء من غير إنهاءه؟ و إزاي إنسان ما بيجد البداية المناسبة الصحيحة لأي شيء؟ و هل فيه أي معايير مُعيّنة نعرف بيها البداية الحقيقيّة الحقّة لأي شيء؟
الواحد لما بيبُصّ لحياة الإنسان باعتبارها هذا الخيط الملعبك و المُستفزّ بيلاقي إنه (الموت) مُرضي تمًامًا كفكّ الرباط و العقدة بدون ما يكون هناك غاية وراء هذا الفعل المُصمّم. الموت، بمعزل عن أسبابه هو الحلّ. و حقيقةً، لما الواحد بيفكّر في الموت بهذه الطريقة بيحسّ بدفا و ارتياح لقفل هذا الكريشندو اللي عند نقطة مُعيّنة بيكون مُزعج.
الخدعة دايمًا في فكّ أي عقدة هو إدراك اتجاه سيرها عشان تقدر تحدد النقطة الأضعف و الأكثر قابلية (للسَلت) و بالتالي تنحية أطراف الصراع. فيه أشخاص قليلو الصبر زي حالاتي بتواجههم عُقد شديدة السايكوباثية كربط الأمهات للأكياس البلاستيك، لا تُحل غير بإنها تُقطع، بمراعاة إنه محتويات أي كيس مهما كانت من الأهمية لا تستحق كل هذا الجهد المجنون للربط و الإغلاق و الاستعصا.
بتتدفق مشاعر و كلمات و أفكار بلا ترتيب و لا إحكام على الإنسان، و في حالة قرر إنه يعبّر، فبيكون دايما مضطر لاختيار بداية ما يتحرك منها لما بعدها. و هي الكتابة بشكل عام صوت فردي متتالي مهما كان تعقيده، يعني على حد علمي مفيش ما يشبه (الهارموني) في الكتابة بحيث تكون كلمتين و فكرتين و شعورين مصاغين في نفس الوقت بتكوين جديد قادرين يحملوا معنى تالت جديد مستقل لكنه يحتوى على الصوتين الأساسيين. و مهما كان الكاتب (حرّيفًا) فهو بكل موضوعية هيرتّب الكلمات بطريقة أو أخرى.
نَفس الشارع/نَفَس الشاعِر
و لا تلاعب مقصود، دي الفكرة التالية اللي جَت مباشرة بلا أي ترابط مَعلوم (موضوعي) في ذهني، بعد الفكرة الأولى. فيه مراكز للغة و الأفكار و الذكريات في الكتلة الغامضة الجميلة اللي اسمها (المُخَ)، و بتنظّم الأمور بناءا على قواعد معينة، و الآن بنستدعي و نتأمل كيفية عمل الحاجات في الذهن بإننا نمارس الحاجات. مستوى واضح و أرضي جدًا هو عدد الحروف و الوزن و الحروف المستخدمة نفسها. و يمكن الفكرة التانية تلاقي لنفسها رُباط ما مع الفكرة الأولى بدون تكلّف، أو ممكن بتكلّف لكن لو أنا حرّيف أمحي هذا الجزء. و أنا مش حرّيف، أنا باتمشّى.
كل فترة أحاول أركز في نوع كتابة مُعيّن، و ألاقي نفسي بأُصيب نفسي بالملل، و أفقد المتعة و الانسجام و التآلف مع واحد من الأفعال القليّلة اللي كانت طريقي و طريقتي للخلاص من اللامعنى.
التعقّد أبدًا مش غاية في حد ذاته،و ميتبدأش بُه، و مش مُغري أبدًا الحقيقة، التعقّد الجميل اللي ناتج من قلب الحدث. خامسة بيتهوفين دايمًا حاضرة كدليل، على البساطة و التجريب و المحاولة و نقد الذات و هدها و بناءها، و في النهاية؛ بساطة متماسكة حتّى التعقّد. عند نقطة معيّنة عشان تقدر تبني شيء واحد محتاج تهد كل شيء و تبدأ تخترع المكعبات اللي هتشكّل بيها المعاني اللي هتفهمها إنت بسّ، و لو فهمها الآخرون، أو بشكل أدق، آخرون، ما يضرّش. المهم إنك تخلق عالم لا يصيبك إنت بالملل.
الشعر هو أكتر محاولة من اللغة إنها تقرب من المزّيكا، و أنا معنديش رؤية الشاعر و لا شعوره، و لا (خُلق) القاصّ للسرد و المدّ و الفرد. أنا تقدر تقول عني من (المعتزلة)، أهل المنزلة بين منزلتين.
باحسّ بالمجموع و الفرد في ضفيرة جدلية ما تنفعش كمان إنها تكون نصوص (نظرية).
من أنا لأقولَ لكم ما أقولُ لكم؟
لا أنا مش باقولُه لَكُم الحقيقة. أنا باكتبه، في عُلبة الماكينتوش المفرَغة من الحلوى و المليانة إبر و خيط، اللي هي هذه المُدوّنة.
الألم على الميزان
من أربع ساعات ما كانش لديّ أي شيء مما لديّ دلوقتي. لا الكلمات، و لا الرغبة.
نزلت أتمشّى لإنه في لحظة مُعيّنة، النور الفلورسنت اُعتيد و ضايقني و بَهَت و زنّت ذبابة الصمت في ودني.
و الأشجار توقفت عن إنتاج الأكسجين داخل البيت،و البيت بطّل يكون بيت، و القُطط بطّلت تكون أحبابي، و بدا إنه ابتلاع الغرفة ليّا هيُسفر عن لا شيء غير مزيد من الغضب الساكت.
أنا مش بانزل أتمشّى عشان أكسر الوحدة، و دا أمر يسترعي بعض التوضيح. ما اعتقدش إنه الناس اللي حبّت الوحدة و حبّتها الوحدة بتكون مشاكلهم مع الوحدة إنهم زهقوا أو ملّوا. الوحدة في الحقيقة وسيلة لإدراك إنه ظواهر (الزهق) و الضجر و الملل و السأم إلى آخر القاموس الوجودي هي ظواهر ليها مصادر مستقلة تمامًا عن الوحدة. في سنّ مبكر نسبيا أدركت، بالملاحظة فقط، إنه كل هؤلاء المشاة وحيدون، بكل الناس اللي معاهم و كل الصداع و الصراخ و الصياح و الرواح و المجئ و الحركة الكدّابة التي لا تسفر عن شيء، هم وحيدون أكتر منّي كمان، لكن محدش عنده أي استعداد و لو ضئيل إنه يبحث عن حلول واقعية لهذه الشتات الجماعي و الدياسبورا الداخلية بدون أي سَفر و لا ترحال و لا (غربة) مكانية. ثم جاءت الماركسية قدّامي لتلقي ظلال على غربة الإنسان ككل لأسباب (واقعية) و بالتالي مشاريع حلول واقعية.
مش بامشي عشان أكسر الوحدة، و إن كنت بانزل في الحقيقة عشان بتواجهني مشاعر مش دايمًا باقدر أتعامل معاها. و مش كل المشاعر يجب إننا نقدر نتعامل معاها بنفس القدر و بنفس الطريقة على كل حال. بانزل و بينزل بيني و بين الشارع عازل زجاجي و كإنه أثير لكنه كثيف جدًا هو قوام للحركة فقط، مادّة للوجود مش الوجود نفسه و لا منشود في ذاته.
أوقات أنزل أصوّر، فأحاول أكسر الحاجز الزجاجي عشان أعرف الناس أكثر لكنه الشارع ما بقاش للناس، بقا للجموع اللي تخلّت عن إنسانيتها بغير وعي. و لا داعي لا لجلدهم و لا الشفقة عليهم. الداعي الوحيد هو لتغييرهم، لتغيير واقعهم، عشان تكون مادّة الوجود ممكنة للاستهلاك الآدمي.
بغضّ النظر عن ذلك؛ باتمشّى عشان أسمع نفسي أحسن، يمكن باعرف نفسي بالتناقض بيني و بين الناس (أحيانا)، و بالتشابه أحيانًا أخرى. و يمكن الأمر بسيط جدًا لدرجة إني بامشي بس عشان الزحام بيشكّل خلفية لنقاشي الداخلي/الخارجي.
من مميزات الحُزن إنه شعور قادر على تجديد العالم البارد المقيت حولك. من فترة تعلّمت إن الحزن لا يقتضي الرعب و عمل أي شيء للهرب منه. بقيت أراقصه و التمشية رقصة بتخفف الحركة العشوائية للحزن داخل التجويف اللي اسمه الإنسان و بتخلّي الحزن يكلّم الحزنّ في العالم. بطريقة أو بأخرى؛ فالحزن شعور لا يحبّ الوحدة، لكنه الوحدة بتحتويه و المشي بيصاحبهم على بعض و على باقي مخزون الحزن و الوحدة في العالم.
(التشبيه) لعبة ليها سحر رغم كونها قديمة و لإنه التشبيه المكرر أو البارد أو المفتعل بيثير السخرية أكثر ما بيثير أي انفعالات حقيقية داخل الإنسان، لذلك، تلاقيني باحاول أتجنّب أي تشبيهات، و أحكي العالم عبر الصور الذهنية اللي بتمر أمامي و كإنها حقائق موضوعية مقتطفة من فيلم وثائقي. و أي تشبيه وارد أو تشابه مع الواقع هو و بكل تأكيد لمن محض واقعي و خيالي الواقعي.
قطعت تذاكر لكن ما سافرتش*
أي حاجة حصلت داخل راسك فقط فهي ماحصلتش.
هي حقيقة بديهية لكنها دايمًا صعب تقبلها، تقدّر تبلعها بلعنات و سباب لكل ما أدّى إلى ذلك، يمكنك أن تتحول من الإنكار للغضب للتقبل، و يمكنك أن تتجاهل كل اللي هيتبني على دا من تفكير سواء إيجابًا أو سلبًا، وجودًا و عدمًا.
الصورة الحلوة اللي تصوّرتها تكوينًا فهي لمتعتك إنت ذهنيًا فقط داخل رأسك متوسط الحجم. مفيش مفرّ إطلاقًا من إنك تصورها عشرين أو تلاتين مرّة قبل ما توصل لفتحة العدسة الملائمة و سرعة الغالق و حساسية الضوء و توازن توزيع الضوء. بالخبرة العشرين و التلاتين مرة ممكن يقلوا لتلات مرات. بس حابب ما أطمنكش إطلاقًا و ألفت نظرك إنه مع الخبرة ما يأسر العين يتغير، و يتعقّد، و تفضل العشرين و تلاتين محاولة قابلين للزيادة. التعلّم و الخبرة الزيادة هي عوامل شكّ مش يقين لكنها مشروع طريق سليم دايمًا، و (الجمال) بيتفلّت من علاقة غير قابلة للحسم و راقصة بين العلمي و العملي و الشخصي و الحظ، الصدفة، اللي هي في صفّ من يفهم الإحصا و يزوّد نسبة احتمالات قربه من الجميل و الحقيقي بكل رمية نرد و كل ضربة ريشة و كل (إطلاق) لغالق العدسة..هكذا.
مع تنامي علاقتي بالكاميرا؛ في مصر بيتعرض حامل الكاميرا لجنون ارتياب من جموع المصريين و السلطة على السواء لإنه فيه إقرار لاواعي إنه هذه البتاعة قادرة على تسجيل حقيقة قبيحة جدًا ( في نظرهم) ، لكنها الحقيقة، جميلة بالضرورة لإنها بتخلق الشك في الإنسان و بتفتح له باب الحرية الغير مريح. محدش أبدًا يحب الحقيقة. دايمًا باجد الصور الكاملة، قبيحة، تافهة و سافلة و سخيفة و تستحق طباعتها فقط من أجل مسح المؤخرات. مع تنامي علاقتي بالكاميرا، اللي هي طريقة أخرى في خلق مشربية أطلّ منها على العالم و تثبيته للحظة في محاولة مني لفهمه بعَبَله، و مع جنون الارتياب، و مع الملل و القبح الحقيقي المنظّم في كل وجه و كل مجموعة، و التكرار و الملل و كل هذه الإكسسوارات و الكهارب و الكباري و الأرصفة و السيارات و الزبالة و الطوب الأحمر و العشوائية في كلمة، فقدت محاولتي للمخاطرة وسط الشارع عشان أصوّر تكوين ما، عشان أنا مش نازل أبرّر وجودي لكل فرد في المشرحة، و بقيت ميّال للشوارع الجانبية و الحيوانات و كل مظاهر الحياة باستثناء الإنسان، و المباني الجديدة.
تَسلُّل
العطوف و الحارات و الشوارع الجانبية لعبة تانية. تقدر تسرق غنوة بصوت عالي نسبيًا ليلا. تقدر تسرق مكالمة جميلة مع الحبيب/ة غير مضطر تصرخ فيها من رئتيك عشان الطرف التاني يسمعك. هواء مختلف، كإنه هربان هو الآخر من الرطوبة و الحرارة و التدافع. الشوارع ليها شخصيات و لو حبّتك بتعرفك على شوارعها الجانبية الأصدق و الأجمل و اللي ما تآكلتش تمًامًا بعد. وجوه مسالمة قادرة على التبسم و التنفّس أخيرًا! عند نقطة معيّنة تقدر تسيب نفسك تمامًا لما تثق في حكمة الطرق و هي بتعرفك على بعضها و على ما تبقى من حياة خافتة فيها. حابب أفكّر في المكافأة غير المقصودة دي كإنها الرضا بحلّ الخيط بعد الصراع مع العُقدة.
بانسحب من الشارع الرئيسي للطرق الجانبية، و هي كل مرة النتيجة نفسها للغرض ذاته؛ الرواح للبيت عن طريق تفريعة جديدة في كل مرّة، و بكدا بقا فيه ألف طريق يؤدي لي و ألف طريقة تؤدي للامكان.
باحب أتصوّر إني باكتشف طرق لا يعلم عنها أحد، و بالتأكيد مش هاعرف عنها أحد. في وقت ما بيكون
عزائك الوحيد هو المسالك المختلفة الخاصة بيك و حتى إن كانت تقود لألف لا مكان.
--
* من أغنيّة "هزّني"- فرقة المصريين.
الخميس، 17 أغسطس 2023
فيفيان دوروثي ماير
تاريخ شخصي
1
حُبّي للتصوير كان مُبكّر، و لا داعي للقلق فدي مش سيرة ذاتية. أنا لا أحد. أنا مجرد أحد الرواة اللي بيحكوا الحدوتة. كُنت بافتح ألبومات صور عائلية و تفتنّي (من الفتنة، أشدّ من القتل) ألوان الصور في الإطار البلاستيك الرقيق الشفّاف. صور لناس أعرفهم، و ناس ما أعرفهمش. ناس باحبهم و آخرين باكرهم. لكن بكل تأكيد اتعلّقت بيهم عبر الإطار المستطيل، و الألوان القديمة الباهتة، و الثبات، و رغبتي/سؤالي اللي كان بيتفتح مع كل مرة: “ياريتني كنت في اللحظة دي أعرف اتحرّكت إزاي و وصلت إزاي لهنا!”.
بابا_ الله يرحمه_ كان عنده كاميرا. بعد وفاته بدأت اتعرّف عليه أكتر، و اكتشفت إنه عنده حب حقيقي للتصوير. صور تلقائية، و صور تانية (مُكوّنة) بعناية. أصدقاء في مناسبات، صور ليه هو شخصيا من مراحل مختلفة. و باختلاف تاريخ التصوير و نوعية الأفلام الموجودة، و رغم ضيق ذات اليدّ معظم العُمر، إلا إنه كان حريص دايمًا، مهما كان ارتباطه أو عدم ارتباطه باللي بيحصل، إنه يصوّره. يصوّر مناسبات عائلية بادي فيها نفور الجميع من الجميع. في استوديو أو في البيت. صورة عائلية لأختي عُمرها ثلاث أو أربع سنين بتبكي خايفة من العدسة و الفلاش، و هو بيضحك بمنتهى الحرية البلهاء و الحيوية. كُنت في رُكن الصورة دي تحت. هل أنا كًنت في الصورة أصلًا؟ مش لاقي الصورة و مش قادر افتكر اللحظة الحقيقية. الواقع الحقيقي اتمسح تحت سلطة ثبات الصورة. تثبيتها للزمن و هو بيتحرك، و تثبيتها للزمن بعد ما يتحرك. في سفرية قصيرة برّا مصر ، طلبت من بابا كاميرا. أنا طلبت من بابا حاجات كتير و دي الحاجة الوحيدة اللي جابها، على مرّ السنين.
2
في لحظة ما من حياتي كُنت قررت الانتحار. و أنا قررت الانتحار عدة مرّات. بس المرّة دي أتذكّرها جيّدًا. ليه؟ لإنها ارتبطت بذكرى؛ أنا أمام الحوض، و جمّعت كل صور موجودة و مطبوعة ليّا في الدنيا ، ولّعت فيها. وقفت اتفرّج و أملّي عيني باللحظة اللي بتنكمش حتى تصبح عدمًا خالصا. و باشمّ احتراق الأدلّة. الانتحار الحقيقي مش إن الإنسان يموت. الانتحار الحقيقي إنه ما حدش يعرف إنه كان هنا من الأساس.
-
صوت
الأسئلة دايمًا أهم من الإجابات. الأسئلة مُغرية و مفتوحة كنَدبة. جونلّة. الأسئلة أنثوية.
و أهميّة الأسئلة بيقيسها اتساع اجاباتها، و عدم حسمها.
لماذا؟-تمهيد.
بيعيش الإنسان زي أي كائن حيّ آخر و غرضه استمرار نوعه. غرض النوع بالتأكيد استمرار نوعه. بالتزاوج و التوالد و الخلق و القتل و التوسّع و كل شيء في ترسانة الجينات للاستمرار. و الوعي، كإنجاز (مادي) للنوع البشري بيفرض بقاؤه، و بيقاتل بكل ما أوتي من لَوَع للانتصار على الفناء.
“علم اللوع أضخم كتاب في الأرض
بس اللي يغلط فيه يجيبه الأرض.”
رُباعيّة لصلاح جاهين.
و اللّوع، في رأيي، هو الطفرة. هو الخلق الدايم العنيف المبني علي النزاع بين مستقرّات. في اللحظة الأقل توقعا خطّيا، و اللحظة الأكثر توقعا لا خطيا، بتيجي الطفرة. تبدأ تدرك نفسها في تخبطها في العماء. الطفرة هي ببساطة تهديد الموت لكل ما هو حيوي و مستقر و (منطقي)، ساعتها الحياة فقط بتشحن بطاريتها و تسنّ سكاكينها و تستوعب الخطأ و يبقى جزء من التيّار و هكذا..
و مع الإقطاع، ثم الرأسمالية، و تطوّر ثقافة الإنسان بعد الحرب العالمية الأولى و التانية، بتزيد قيمة و وعي الإنسان بفرديته، و للمفارقة و مع الأسف، باغترابه. بيبتهل الإنسان و يتهلل لتفرّده بتجربته الشخصية، كل واحد يعني فرد في حد ذاته. نفس السكينة اللي وجهها الإنسان للعالم طعن بيها نفسه!
حابب أفكرك إنه دي مش سيرة ذاتية، لا لذاتي ولا لذات فيفيان دوروثي ماير.
21 أبريل 2009
بتموت فيفيان ماير. عمرها تلاتين ألف تلتمية ستّة و تسعين يوم. أربعة آلاف تلتمية اتنين و أربعين أسبوع و يومين. ما اعرفش ليه ما بيتمش حساب المدّة اللي قضاها الشخص في الرحم لحياته؟ تسع أ و سبع شهور ميلادية يتضافوا لرصيدك الفعلي. يمكن عشان الوقت دا ما بيكونش فيه واعي و لسه بيتكوّن؟
طيب ما إنت بتتكوّن برّا. الرضاعة و الحفاضات و المشَايات، تلقين اللغة و الأخلاق و العادات. التعليم و التمويل حتّى التخرّج مثلا على الأقل من ثانوية عامّة. نطرح التمانتاشر دول من حياتك؟ طيب و الوقت اللي نمت فيه؟ تلت حياتك لو متوسطها خمسة و سبعين عام. يعني حوالي خمسة و عشرين سنة نايم و تمانتاشر بيتم رعايتك ( في الظروف المثالية). طيب و الأكل و الشرب و الجنس؟ و الحمّام؟ إحنا كتبنا الأدب و ألّفنا المزيكا و حطينا العلوم و قمنا بالثورات دي كلها إمتى و في قد إيه؟ و العمل المأجور؟ يوم العمل كان اتناشر ساعة ( و مازال في بعض الوظايف)، قِصِر على الورق بالتأكيد لكن مازالت الشروط المستعبِدة الظالمة لأغلب سكّان الأرض حاصلة. طيب و المواصلات؟ طيب الناس اللي بتتمشّى للعمل؟
معظم الحضارة أنتجتها طبقة كان عندها وقت فراغ أكبر لإنه مهامها اتحطّت على عاتق طبقة تانية.
في المنتصف تقريبا
فيفيان بتنزل تقضي وقت فراغها في التمشيات الطويلة. تصوّر. تسجّل حوارات بينها و بين الغرباء اللي بتصورهم. تخلق شخصيات متعددة بلهجات مختلفة و تاريخ منفصل تكلّم بيه موضوعات صورها و تقرب منهم. كانت أحيانا تصطحب حد من الأطفال اللي بتربّيهم ( كانت مُربّية قرابة الأربعين سنة) و تتحرك معاه لأطراف المدينة (شيكاغو) الأكثر خطورة.
1959, Grenoble, France. © Vivian Maier/Maloof Collection.
لماذا؟-1
فيه منطقة من ألفين و عشرة لألفين و تلاتاشر ، مواليد آواخر التسيعنيات و أواخر التمانينيات كانوا بيتفرموا فيها. أنا دخلت المفرمة دي و حاليا بارجع، بعد ما يزيد على العشر سنين افتكرها كشذرات. ذكريات متقطعة ليها أصل ما غامض و باهت و مشوّش في الماضي. في العشرين تلاتة و عشرين ظهر ناس و ذكريات لم تغلق من الألفين و عشرة و حداشر و اتناشر و تلاتاشر. و لولا إنه القوس كان مفتوح و متوارب ما كنتش أصلًا هافتكر الأحداث و الظواهر دي كجزء جديد في الحكاية القديمة.
في نفس المنطقة دي فاكر إني شفت لأول مرّة أوّل صورة لفيفيان ماير. امرأة بملامح محايدة أقرب للقسوة. شعر قصير. كاميرا موجهة لمرآة. المرأة توجّه الكاميرا للمرآة و خلفها مرآة. و في داخل الصورة الواحدة تتكرر نفس المرأة و المرايا ملايين المرات (نظريا) من الأمام و الخلف. دي مش سيرة ذاتية ولا هو تحليل لعمل فيفيان. أعمال أخرى حازت المرايا و الظلال و انعكاسها مساحة كبيرة من منتجها شديد الضخامة (قرابة الميه ألف صورة).
مش فاكر شعوري وقتها. بس فاكر إنه المرحلة دي كانت الحاجات ( عشرينيات العمر)، كل الحاجات بتعدّي سريعا. عملت (لايك) للصورة و مرّيت. مش فاكر بحثت عن اسم المصوّر وقتها ولا لأ. مش فاكر. كل اللي فاكر إني حاسه إنه المرايات والانعكاسات كانت تيمة في السوريالية و خصوصًا عند رينيه ماجريت ( تشكيلي بلجيكي). دلوقتي، و أنا بادعبس في تاريخ فيفيان، لقيتها أصلا مش أمريكية. الأب نمساوي و الأم فرنسية. و جزء كبير من طفولتها كان في انتقالات بين أميركا و بين فرنسا عند أقاربها. حتى الملامح، مش أميركية تمامًا. أوروبيّة.
دلوقتي، من فترة على وجه التحديد، كان بيطاردني الاسم، اللي مش فاكر فاكره منين و إزاي بالوضوح دا. و كانت بتطاردني البورتريهات الشخصية اللي شفتها هنا و هناك لفيفيان في المرآة، لفيفيان و انعكاسها في واجهة المحال، لظل فيفيان في كاميرا فيفيان.
Self-Portrait, 1956. © Vivian Maier/Maloof Collection.
استطراد
ألف
باحب لاعبات البيانو. باحب عزيزة زادة و مارثا آرجيرش. باحب المصوّرات. سالي مان و ديان آربوس و فرانشيسكا وودمان. العالم جميل و غريب من عينين امرأة، و حزين. فيه مخرج مش فاكر اسمه ( باعتذر عن عدم تذكري لكن مفيش وسيلة لحفظ الذاكرة من الضياع غير بكتابة و تدوين و تصوير و توثيق كل شيء) قال ما يعني إنه السينما هي مشاهدة امرأة جميلة تطلق النار. شيء بالمعنى دا تقريبا. في فيلم (الاحتفال) 1995، إخراج كلود شابغول*، بتقف كل من إيزابيل هوبيغ و سودنغين بونيغ* موجهتين بندقيتين ( مش مهم لمين و مش مهم حصل إيه لكن فيه جمال ما، و غير مازوخي بالمناسبة، في امرأة تمسك بسلاح ناري).
“الاحتفال” إخراج كلود شابغول
باء
في اللغة الإنجليزية التصوير و إطلاق النار ليهم نفس الكلمة، باختلاف السياق. و أكيد اختيار الفعل في حالة التصوير تابع لإطلاق النار. و المشترك الوحيد بينهم إنهم بيسابقوا الزمن بغرض تثبيته و إيقافه، تمامًا، و للأبد. قسوة لا يمكن أن تمارسها إلا امرأة.
لماذا؟-2
الوقت اللي كانت فيه فيفيان دوروثي ماير بتمتهن مجالسة الأطفال، و بتنزل تصوّر و تحتفظ بالصور لنفسها، و بتبيع من بواقي ممتلكاتها على لفّ العالم، عشان تصوّر، و ترجع أميركا تكمّل مجالسة الأطفال. مجالسة الأطفال، اللي مش أطفالها، و دايما هم أطفال الآخرين، و تكمّل تصوير في أيام العُطلات، كان الوقت دا، في العالم، هو عصر ذهبي للتصوير و المصورين. دا وقت كان فيه ريتشارد آفيدون، هنغي كاغتيغ بغيسُّو**، ساول لايتر، روبرت فرانك، روبرت مابلثورب، غوبيغ دوانو***. دي الأسامي اللي حاضرة في ذاكرتي الآن. في الوقت دا، كان أكثر شيء منطقي لمُحب للتصوير، و مصوّر إنه ينشر أعماله.
السؤال واضح يا فيفيان. ليه ما قمتيش بنشر أعمالك؟
الحقيقة ما حدش يعرف أبدا الإجابة. ممكن تتكهن مثلا إنها كانت خايفة من حكم الآخرين، أي آخرين، و قدرتها الوحيدة هي مواجهة نفسها (رمزيا) في المرايات، من خلال الكاميرا كمان، و المواجهة تسجيلية مش أسطورية كمان. يعني محض تدوين لوجود مواجهة بدون انتصار ليها على الظلّ ولا للظلّ عليها.
( الظل مفهوم طوّره عالم النفس السويسري كارل يونغ للتعبير عن النسخة المُخفاة، الأبعد مننا، جنسي و غير جنسي).
بالحديث عن الجنس..
لماذا؟-3
جليسة أطفال مُحترفة لمدة أربعين عام. بالتأكيد عندها من المهارة و حسن المعشر و فهم الطفل اللي يخلي الصغار يحبّوها. ما شكل حياتك العاطفية يا فيفيان؟
و أنا باقرا و بادوّر لا يبدو إنه فيه أي ذكر من أي نوع لحياة عاطفية خاصّة. الملامح المحايدة و غموض السردية الشخصية، و التصوير بلا أي هدف أكبر من التصوير في حد ذاته، حسيت منها كإني قدام كائن غير أرضي (فضائي) جاء الأرض في مهمة واحدة مش واضح لهاغير هدف واحد، تصوير البشر بشكل جميل. الكائن الغير أرضي النازح من السماء يبدو إنه كان بيحاول يتعرّف على نفسه في غمار استكناهه للآخرين.
هل مارستِ الحُب؟ إزاي الإنسان هيقدر ينتج فنّ و هو لم يختبر الحب؟
الفيلم الوثائقي “البحث عن فيفيان ماير” بيرد بوضوح على السؤال دا، من وجهة نظر اللي عرفوها يعني.
“لقد كانت وحيدة، لم يكن لها أطفال أو عائلة. لكنها كانت بمثابة أم بالنسبة لنا”- شهادة أبناء واحدة من الأسر اللي اشتغلت عندهم فيفيان كجليسة أطفال. لكنّ أيضا الناس كانت بتقول إنها (غامضة) و تفضل الخصوصية. احتفاظها بالأفلام غير مُحمّضة في مخزن، مع هواية أخرى في تجميع الجرايد، الوصولات الحكومية، تذاكر المواصلات. كل شيء في حكاية فيفيان عكس كل شيء في حكاية فيفيان!
استطراد-نيجاتيف
مفيش فيلم مُظهّر واحد في حياة فيفيان. استخدمت في رحلتها مع التصوير عدة كاميرات، منهم نوع ببساطة كانت تقدر تشوف التكوين النهائي قبل ما تحرّر الغالق.
Release the shutter- ترجمة حرفيّة
و بشكل عام فكل الكاميرات تقريبا تقدر تشوف المشهد قبل ما تدوس على الزرّ. بفرق بسيط إنه المشهد النهائي بعد سماح مرور الضوء من العدسة و تدوينه على الخام مش بالضرورة يكون بنفس ما ظهر في عينك و عين الكاميرا. عشان كدا التصوير بيحتاج تدريب كتير و مقارنة و تجريب و نقد ذاتي.
كانت إيه مساحة النقد الذاتي في تصوير فيفيان ماير؟ و هي على ما يبدو ما كانتش بتظهّر صورها بعد ما تصوّرها. مؤلف موسيقي بيكتب نوتات و ما بتتحولش لصوت أبدًا غير في أذن صاحبها. مثال بلا فعل. و لو فعل فهو فعل مُجهض ناقص، مفروض عليه التشظّي بلا هدف.
ما بافضّلش اصدّق إنها ما ظهّرتش صورها عند مرحلة ما، أو على الأقل جزء من تصويرها (شافته). فيه دراما مُبالغ فيها هنا (معلومة إنها ما شافتش صورها) مش محتاجين ليها.
تاريخ شخصي
3
في الألفين و اتناشر، تنامت رغبة لديّ في إني اقتني كاميرا رقمية و أصوّر. رغم حبي اللي كان و ما زال لتصوير الفيلم لكن بدا إنه بشكل واقعي الرقمي أرخص و عملي، لإنه مفيش حد للمرات اللي ممكن تجرّب فيها قبل ما تقرر النسخة النهائية من التكوين اللي هتحتفظ بيه. بخلاف الفيلم اللي معاك 36 محاولة مش بالضرورة يكونوا جيّدين. مع الرقمي اتوجدت إمكانية واقعية لمحو الفعل. للتملّص من الخطأ. و مع السهولة النسبية تزايد أعداد المصوّرين بشكل جنوني. في مصر بس، و في محيطي، كنت أعرف فوق الخمسة أو الستة. كلهم كانوا (مُصوّرين) و الحزين إن ثقافتهم البصرية كانت ضئيلة و محدودة. و ما أقصدش أبدًا (كم) المشاهدات اللي شاهدوها. لكن لم يكن عندهم (نظر). العين المُبصرة و البصيرة كانت عمياء. مازلنا عايشين الكارثة دي. بل تزايدت بتزايد الهيستيريا على نشر و صناعة المحتوى، البصري، لإنه سهل و (بيوصل). بوجود منصّات مُكرّسة للتصوير فالكل بقا يسترزق و يُحط صوره في وشنا. إنستاغرام لو فتحته هيوصل لك إحساس إنه كل المصريين مُصوّرين، و كلهم رائعين و مُدهشين و مُلوّنين، كإنهم عايشين في مصر غير مصرنا. و بينزلوا شوارع غير شوارعنا (حقيقة!)
طبعًا، ما اسعفتنيش الظروف في شرا ء كاميرا قبل الألفين واحد و عشرين. جبت الكاميرا الرقمية و كنت ماشي أصوّر كل شيء، باتعلّم. ثم، مع الوقت لقيت نفسي يا إما باكسّل يا إمّا باخجل أنشر صوري اللي بالكاميرا. لإنها مش كاملة، و مش على إيدي، و محتاجة معالجة لونية (الرقمي أكبر كوارثه إنه ما بيديكش أبدًا روح الفيلم، و لازم تصلّح صورك بالمعنى الحرفي، مش تظهرها، و دا شيء لحد الآن غير منطقي بالمرّة. لكني راجل تلاتيني، بقيت أعرف ما اقتنعش بشيء و أدرك حدود الواقع مع محاولاتي المستمرة لتغييره. بالاقي نفسي بانشر صور بالموبايل، رغم كراهيتي لكاميرا الموبايل و سطحيتها، إلّا إنه تعديلها أسهل. أنا أصلا باصوّر عشان اعرف أتواصل مع العالم بدون حديث فعلي. التعرّض للآخرين الآن أمر مخيف. و الكاميرا هي الدرع و السلاح اللي باحاول اتعامل بيه مع العالم الموحل الموحش دا، زي منظار الرؤية الليلية. أمّي نصحتني كذا مرة إني أبطّل ألبس نضّارة و أعمل عملية تصحيح للإبصار بالليزر. كنت و ما زلت بارفض، لإنه النظّارة بتفصلني عن العالم، و بتربطني بيه في نفس الوقت. أنا مش عاوز أفضل حاضر في العالم غصب عنّي!
إجابة..نوعًا ما!
من الشهادات اللي بيسردها معارف فيفيان، يبدو إنه كان عندها نوع من (القرف) تجاه الرجال، و تجاه (الجنس) و التلامس. إزاي ممكن تكره معنى، أو شيء إلا لما يضرّك؟
البشر طوّروا (القرف) كتقنية حفظ للنوع، كنوع معيّن من الخوف و الرهبة تجاه الغريب. الصراصير و الفئران نالوا فوق حظهم من القرف، و تطوير القرف دا لخرافات و أساطير و ارتباطات دينية و ثقافية عدّة. عند المسلمين العرب مثلا فيه هذه الكراهية و القرف و الرعب من (البرص). زاحف أهبل بنّي مائل للصفرة، و قادر على التجدد! مين إنت يا حقير في سلم التطور عشان تتجدد و تقوم من الرماد و تنبت ذيل بدال المقطوع؟ فهنلاقي ربط بين القرف دا و قصص ليها علاقة بالنبي إبراهيم شديدة البلاهة، لكنها بتورّيك قد إيه الإنسان قادر على (عقلنة) مخاوفه.
تَعَرُّض
الصورة، فيزيائيا بتتكون من تعرّض سطح حساس للضوء، للضوء (بالطبع!)، عن طريق عبور الضوء من طريق ضيّق نسبيا و حضوره داخل (غرفة مظلمة) (المعنى الحرفي لكلمة كاميرا هو غرفة-اللغة الإيطالية، واللي فيه احتمال إنها جت من كلمة “قُمرة” العربية لإنه صاحب الريادة في تجربة الغرفة المظلمة كان ابن الهيثم، بس تاريخ التجربة أقدم من كدا و مفيش نظرية حاسمة بتؤكد المصدر العربي للكلمة). الصورة، هي نتاج حرفي لصراع النور مع الظلام. في الخمسينيات و الستينيات كان تصوير الأبيض و الأسود هو نوع التصوير اللي يُعدّ (فنيّا)، و استخدام أفلام ملوّنة كان بيعامل بعدم اهتمام بل بشيء من الطَرد و الرفض باعتباره مش فنّي تماما. الأبيض و الأسود كان و مازال حقل التدريب المثالي للتصوير. إدراك درجات النور و الظلام و التحكم فيها، أو بالأحرى، الإصغاء ليها و استخدامها. الأبيض و الأسود صراعهم واضح و مباشر، لكن الألوان؟ ببساطة، مُلوّنة!
في وقت من الأوقات تواصلت فيفيان ماير مع معمل تحميض و طباعة في فرنسا (أثناء وجودها في الولايات المتحدة الأمريكية) عشان يظهّر بعض أعمالها ( يعني كانت مدركة و وواعية بالفعل بجودة ما تعمل، و كمان كانت في اتجاه لمشاركته مع العالم، لكن مش في أميركا).
باحسّ إن حياتها نفسها، بوعي تام منها، كانت بتبنيها على الصراع، على القتال بين التعرّض و الاختفاء. الانفتاح على العالم و الانزواء عنه بعنف. التصوير من غير تحميض. التحميض من غير نشر. الحديث مع ناس من غير مشاركة الحقيقة ( كانت بتتصنّع لهجة فرنسية، و تكرر استخدامها لأسماء مستعارة). ولا ما كانش بوعي منها؟ كانت ابنة مخلصة لقوانين الطبيعة و بتدوّنها، بوجودها.
الصورة اللي انتصر فيها الضوء بايظة، بيضاء. و الصورة اللي بينتصر فيها الظلام تالفة، مظلمة و سوداء.
Self-Portrait, Undated. © Vivian Maier/Maloof Collection
(الفقراء أولًا يا ولاد الكلب!)-الصحفي الراحل محمد أبو الغيط.
عرفت محمد أبو الغيط الله يرحمه من مقاله السابق ذكر اسمه، في غضون أحداث يناير ألفين و حداشر. لسبب ما، ذاكرتي مُصرّة تحط الأحداث في عام ألفين و عشرة. أنا أتذكر الأحداث اللي شاركت فيها كإنها ألفين و عشرة. يمكن لإنها في أول ألفين و حداشر؟ يناير يعني؟ كنت ساعتها بادرس و عامي الدراسي هو اللي التقويم المسيطر مش الميلادي ولا الهجري. في الألفين اتنين و عشرين عرفته قبل وفاته بأسابيع، من كتاباته الموثّقة للإقبال على الموت، طبيا و أدبيا. بعد وفاته نُشر كتابه “أنا قادم أيها الضوء”. باستعد لقراءة الكتاب بعد ما أنهي كتابة.
الضوء. هو أنا قلت إنه دي مش سيرة ذاتية؟ لأي ذات كانت أنا أو فيفيان؟ صح؟
في مدينة كبيرة، مركزية و مزدحمة زي نيويورك، محتاج تمشي و تتجه لأطراف المُدن. تبعد عن المركز قدر الإمكان و تتبّع الأطراف، أطراف الحديث. الهامش. العفن و العشوائية في سريانها اليومي. العنف. البؤس. القبح. المرض. الموت. البطالة. المخدرات. تجارة الجنس. المُشرّدين. آه، في المركز و الزحام قلّما هتشوف ما يقرفك، يخيفك، يتحدّاك. في المركز قبح مركزي بلا أي جمال يُذكر. مركز كل شيء مش المدينة بس. الناس ذاهبة للعمل أو خارجة من العمل. في سياراتهم أو في المواصلات أو على الأقدام.
الجمال القبيح أو المستفزّ بيخرج من الأطراف، أطراف كل شيء. الشمعة ما بتحلاش في العين إلا قبل الانطفاء بثواني. الضوء أجمل و هو أخفت. قلّما أمكن تستخرج جميل وسط الزحام.
كُنت باتمشّى، حلقات الشعر و تيشرتات النوادي الأجنبية بتخبط عيوني زي المسامير. كلاكسات التاكسي و التكاتك و كل المتكدسين المتكلسين بتكسّرني و بتدعوني للانكماش. مستوى الضوضاء مليون ديسيبيل! أكوام لحم بلا روح بتتقاذفني و بتحوّل تمشيتي لجحيم من استحالة النظر أو السماع أو الاستماع لأي شيء. أنقذني من السُعار دا محلّ أنتيكات لقيت عنده بيانو قديم حاولت أمشي إيدي عليه، ألعب أي سلّم من اللي اتعلمتهم.من الطفولة و أنا باحب البيانو و أتمنى لو قدرت اتعلمه في يوم. اللحظة اللي كان إصبعي بيلمس فيها مفتايح البيانو ثم ييجي الصوت ناعما و بعيدا كانت نورانيّة. كُنت كإني باناضل للخلق من جديد و خلع رداء العالم دا عنّي. ثم انتصرت الفيزياء، مجموع صوت الكلاكسات انتصر. و مشيت بعيد عن البيانو مهزوما و مسرعا.
التمشيات تحلو بالتأكيد على أطراف المدينة، و القاهرة ما بقتش مدينة. القاهرة طرف مدينة كلها مزدحم و كلها يصرخ و كلها يقتتل على أي و كلّ شيء.
كانت تمشياتها في أطراف المدن و الأماكن اللي عاشت فيها، فيفيان. و كانت زي كل مصوّر قرر يمسك الكاميرا و يُطلق، موضع شك، و تحفيز و استفزاز للمارّة أصحاب الحظوظ الأقلّ على الإطلاق. بترسانة من الحيل و التلاعب، و لظرف موضوعي جدا هو إنه الكاميرا الأساسية بتاعتها ما كانتش بتضطرها تبص للناس في عيونهم فغالبا كانوا بيشكّوا إن كانت بتصورهم أصلًا.
November 1953. New York. © Vivian Maier/Maloof Collection.
نهايات
الأولى
ما حدش أبدًا بيرد على سؤال “ليه الوحدة حزينة؟” برا نطاق علم النفس و الاجتماع. مفيش حد بيثبت حقيقة ذهنية عن (لامنطقية الوحدة)، و إنها نزوع للدمار يرفضه المنطق التركيبي. بتروح الإجابات لمكان ما في إطار كون الإنسان كائن اجتماعي، و كإن دي حقيقة نهائية. و المفارقة، إنهم بيستخدموا نفس الحجّة في تفسير تعاسة الإنسان الحديث اللي فرديّته تسرطنت، و كإنه علم النفس و الاجتماع دورهم التفسير باستخدام تاريخ وصفي (محدد) للنوع الإنساني و غير قابل للتطوير، بحجة إنه عمر الجماعة الإنسانية نفسها قصير نسبيا بالنسبة لتاريخ ظاهرة الحياة. ربّما ما عادش حد عنده جرأة التخيّل و الحلم و التفلسف برا (المنهج) العلمي. العلم اللي كان دوره هو الحركة للأمام و للأوسع و لإنارة الطريق (عصر التنوير) بقا فقط و حصريا بيعبد نفسه و منهجه و مقدماته و نتايجه بغض النظر عن (جمالها). العلم اعتاد إنه يكون جميل، لحد ميكانيكا الكمّ. و طبعًا مفيش مفارقة خالص إنه العلم الفيزيائي الجديد المبني بالكامل في العالم الأوّل الرأسمالي، يكون محوره مفهوم زي (الكموم) أو (الكمّات). علم مبني فقط على استغلال العالم و موارده المذهلة حتى على مستوى الجسيم تحت الذري.
ليه الوحدة حزينة و ثقيلة؟ و ليه الإنسان مش قادر ينتصر على مفهوم سائل لا بالأدوية و لا بالعلاج النفسي؟
و لا بالإنتاج، و لا بالظهور، و لا بالتواصل، و لا بالعزلة، و لا بالجنس؟ و لا بالدين؟
ليه الإنسان دلوقتي فشلت كل إجاباته في الإجابة عن سؤال الوحدة؟
هو أصلا المفروض نبحث عن (حلّ) للوحدة؟ هي الوحدة مشكلة أصلا؟ و هل فيه حد آمن و فاصل بين الوحدة الصحية و بين الجنون؟ أو بين الاختلاط مع المجتمع و بين الانسحاق؟
بنخاف عشان هنموت؟ هو هيحصل إيه لو إنسان ما تم تخليقه في بيئة معزولة ما تعرّفوش أي حاجة عن الحزن و النقص و الموت؟ هو إيه الموت؟ متهيألي مفيش إجابة شافية أو شرعت حتى في الرد على السؤال دا فعلا. الشروع في الإجابة على الموت هو شروع في الرد على كل شيء.
ليه توقف الإنسان عن التفلسف؟ ليه توقف الإنسان عن التفلسف؟
ليه توقف الإنسان عن التصوّر؟
و ليه بطّلت فيفيان التصوير؟ و ليه ماتت بهذه الطريقة؟ أو بطريقة غيرها؟
المُثنّاةُ ذات الطبيعتين
“و فيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز و بارك و كسر و أعطى التلاميذ و قال خذوا كلوا هذا هو جسدي،و أخذ الكاس و شكر و أعطاهم قائلا اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا” البشارة حسب رواية متّى.
بيخبّي الإنسان هشاشته في الدولاب، في الأدراج غالبا و في شنط السفر فوق ضهر دولاب غرفة النوم. في النيش و في الكومودينو و في التسريحة، تحت السرير و في علب الشيكولاتة الصفيح وسط الزراير و بَكرات الخيط و إيصال الكهربا و الإبَر من كُل اتجّاه. عبر ممر ضيّق بيعدّي النور عشان يكشف العتمة، و بالعكس، بتمرّ العتمة تبقّع النور. بنحلم.
تحت القُبّعات، و الملابس الواسعة، و تسريحة الشعر القصير، و بالتأكيد الكاميرا، و بالتأكيد عادات و تصرفات قاسية و مقلقة. أقفال هنا، أقفال هناك.كانت بتستخبّى هشاشة فيفيان.
خلف الوجه الصارم، و الصوت القاسي، مشية (عسكرية) اتوصفت بيها، كانت عذوبة و مرح و لين نقدر نشوفهم بتجلّي في صورها. باشوف علامة الاستفهام دايما في تكوين بورتيهاتها الشخصية و كإنها طول الوقت كانت بتوجه الكاميرا لنفسها، علامة الاستفهام الدائرية المنحنية الأنثوية، لنفسها.
كاميرا فيفيان كانت تنظيم لسطوع العالم حدّ الاحتراق.
Vivian Maier, Self-portrait (1986). © Vivian Maier/Maloof Collection.
من فترة، بدأت أمارس (التأمل) كتدريب على التركيز و رؤية أكتر توازنا للواقع. كنت بالزم نفسي بالبحث عن أسباب للامتنان، جوانب مضيئة في الظلام. انتهى بي الحال إني باشكر كل المجانين المساكين المختلين اللي وجّهوا الخناجر لقلبي. مش لأي شيء من الحكمة، لكن شكري ليهم من عميق كراهيتي ليهم، لإنهم خلّوا حساسيتي للسطوع أكثر، و لتدرجات و تفاوتات السلوك الإنساني. نتوجه بالشكر لكل الجراثيم على تدريب جهاز مناعة أفضل، حتّى لو بدأ يهاجم نفسه!
لو..؟
نوفمبر 2008
ما وقعتش فيفيان ماير على الجليد، ما اتزحلقتش، و بالتالي ما اتخبططش. هي كان شكلها إيه و هي عجوز؟ ليه ما شوفتش أي صورة ليها بعد التمانينيات؟ ما حدش صوّر فيفيان ماير؟ ما حدش أقدم على مبادلتها اللقطة باللقطة و اللحظة باللحظة؟
لو الملابسات كلها مشيت زي ما رتّبت ليها فيفيان، كنا فعلا عمرنا ما عرفناها؟
الطفرة/الصدفة كانت أقوى كالعادة. بس هل فيه طريقة نقدر نتأكد بيها من دا؟
فيه كام فنان عظيم عاش و مات و العالم ما عرفوش لإنه ما نشرش؟ أو لإنه ما حظاش بدعم أو احتواء؟
و ليه العالم بيكرر نمط ( أوقات كتير) هو شهرة الفنانين العظماء بعد وفاتهم.
ليه فيفيان أصلا ما سعتش للشهرة و عرض أعمالها على الغير؟ هل ممكن إنها كانت شاكّة في جودته؟
لو هي مش مخلصة أو خايفة من الكاميرا كدا، إيه اللي يخليها تفضل بالالتزام المذهل دا طول السنين دي؟
النهاية؟
العالم العايش على الاستهلاك و التنافس شايف لكل شيء (إمكانية) للاستغلال، حتى لو الأمور مباشرة و بسيطة. يمكن الغموض و الغرابة اللي في حياة فيفيان، في عينينا، مش غرابة و غموض و مش عائق بالمرة، بدليل حياتها البسيطة و عملها البسيط اللي ما حاولتش تغيّره. يمكن الدنيا بسيطة و مباشرة. يمكن الإجابة قدّام عيوننا كالآتي:
آه. فيفيان ماير استمتعت بحياتها البسيطة، استمتعت بالكاميرا/ت و الأفلام و التصوير و تجميع الصحف و التذكارات. مش لازم دايما يكون فيه أحلام كبيرة و تنافس. مش كل الناس عندها النقص و الرغبة المريضة أحيانا للتفوّق و الظهور و التعرّض. من غير عُقد، من غير صدمات. وارد. مجرّد (حب) لممارسة الفنّ، من غير الفذلكة، من غير حتى ما نسعى لتسميته (فنّ). نتمنّى كلنا نعيش في عالم كل أفراده فنانين بشكل ما. بينحتوا و يمثلوا و يغنّوا و يحترفوا النجارة و الحدادة و السباكة. دي فنون. نكون جميعا مُلوّنين و مش بالضرورة كلنا نكون (فاقعين). مش لازم أشارك العالم (الناس) ما أفعل، على قد ما المشاركة تكون بمعنى (الفعل) و الاشتراك و الشروع في الفعل.
يمكن يكون كل اللي محتاجه الإنسان هو الخلق، التجدد. يمكن يكون دا صُلب تمثّل الوعي بأكتر شكل مباشر. وعيي بالوحدة، بالشك، بيقيني من الموت، و بعدم يقيني من ما بعده. وعيي بالنهاية، وعي الإنسان إنه دايما فيه نهاية، و إنه حتى الآن_و يمكن دا لحسن الحظ_ مفيش مخرج من النهاية، مفيش مخرج من النفق دا، غير محاولة دؤوبة للحركة للأمام، لأعلى. يمكن هو دا (المعنى) الوحيد الممكن.
باقول (يمكن) لإنّي مش (هيّ)، مش فيفيان دوروثي ماير. و هي مش أنا، مش (أحمد)(علي). الأمر الوحيد اللي بنتشاركه هو حبّ للصور، للعالم رغم الرعب منه، و الحذر و الشك في معنى كل شيء. و رغم ذلك/، بنقرا الأخبار و الكتب و بنستمع للمزّيكا و بنصوّر. بنحن و بننهزم ( بشكل نهائي أحيانا). غيرنا ممكن يقوم بعد ما بيقع.
يمكن حاجة الكائنات الحيّة كلها لنقل جيناتها و توريثها لجيل جديد دا هدفها و رغبتها و مسعاها. إدارك الجسيمات الذرية و الخلايا لمعنى وجودها و حياتها: الحضور و الحركة و نقل المحاولة دي للي بعدنا، و لو ما انتقلتش عن طريقنا لا داعي حقيقي للقلق، لإنه بشكل أو بآخر الحياة حدثت، و هتحدُث. الوجود كله حصل بعد انفجار كبير و جميل. مسيره ينكمش و يلفّ تاني للعدم دُرّ، حيث لم يكن أي من هذا حادث بالفعل.
Vivian Maier, Self-portrait (1978). Photograph: © Vivian Maier/Maloof Collection.
حلم
نفسي أسافر، جوه مصر، و برّاها. نفسي أروح المغرب و تونس و سورية و فلسطين و الأردن. نفسي أزور أميركا اللاتينية. بافتكر حلم آندي دوفراين في “الخلاص من شوشانك” في امتلاك مركب و منزل في قرية بحريّة. إمتى هيحصل دا؟ و إزاي؟ و مع مين؟ ما اعرفش. مُهمّ إن الإنسان يحاول و ما يتوقفش عن المحاولة، بس في رأيي الأهمّ إنه الإنسان ما يتوقفش عن الحلم، حتى و هو بيموت. يحلم بخلود، و باستمرارية، و أبديّة من نوع ما، “ فيها خبز، فيها ملح، فيها رضا”*.
تيم روبنز في “الخلاص من شوشانك”
هوامش
*،**،*** النطق الفرنسي للأسماء.
**** إشارة لأغنية “ إيه فيه أمل” من كلمات و ألحان زياد الرحباني و غناء الست فيروز من ألبوم “ الله كبير”.
مصادر
English:
- Finding Vivian Maier (Documentary) ,2013. Directed by: John Maalof and Charlie Siskel.
- John Maalof Collection of Vivian Maier: https://shorturl.at/iuADF.
- Photo exhibition at Bozar: Vivian Maier. The Self-Portrait and its Double: https://shorturl.at/ABES3 .
- The Biggest Lie Social Media Feeds Photographers : https://www.youtube.com/watch?v=PndV7QfWKTI.
- An episode about Vivian Maier in “The art of Photography” by Ted Forbes: https://www.youtube.com/watch?v=66oDaqgdTyI.
- Vivian Maier: The Color Work. Book by Colin Westerbeck.
- Howard Greenberg Gallery: https://shorturl.at/ghsZ5.
- When Was the Camera Invented? : https://shorturl.at/lOTUZ.
- The word “ Camera” etymology: https://shorturl.at/amryP.
- Carl Gustav Jung Wikipedia page: https://shorturl.at/uJLW5.
- The Jungian Shadow: https://shorturl.at/fpty6.
- René Magritte Wikipedia page: https://shorturl.at/celq4 .
- Surrealism Wikipedia page: https://shorturl.at/inuQ8.
- René Magritte Artworks : https://shorturl.at/lqJU5.
- The Shawshank Redemption (Movie), 1994. Directed by: Frank Darabont.
- La Cérémonie (Movie), 1995. Directed by: Claude Chabrol.
عربي:
- مقال أو تدوينة “الفقراء أولًا يا ولاد الكلب” للصحفي الراحل محمد أبو الغيط:
- الإنجيل بحسب رواية متّى: