الجمعة، 8 مارس 2024

بلا خُطّة كتمشية طويلة

 

الشارع الرئيسي 

ما قابلتش إنسان قادر بمنتهى الهدوء و السلام النفسي يترك عُقدة خيط أو كيس غير لما ينتصر عليها بعد حرق دم و شدة أعصاب، يفكّها يعني، بدون أي غرض من فعل التفكيك و التفتيت دا غير غريزة ما و صوت غير مسموع إنه هناك رضًا عميق و (عدالة) تتحقق بفكّ العُقدة و الرُباط الغير مقدّس. إزاي بيقدر الإنسان يبدأ شيء من غير إنهاءه؟ و إزاي إنسان ما بيجد البداية المناسبة الصحيحة لأي شيء؟ و هل فيه أي معايير مُعيّنة نعرف بيها البداية الحقيقيّة الحقّة لأي شيء؟

الواحد لما بيبُصّ لحياة الإنسان باعتبارها هذا الخيط الملعبك و المُستفزّ بيلاقي إنه (الموت) مُرضي تمًامًا كفكّ الرباط و العقدة بدون ما يكون هناك غاية وراء هذا الفعل المُصمّم. الموت، بمعزل عن أسبابه هو الحلّ. و حقيقةً، لما الواحد بيفكّر في الموت بهذه الطريقة بيحسّ بدفا و ارتياح لقفل هذا الكريشندو اللي عند نقطة مُعيّنة بيكون مُزعج.

الخدعة دايمًا في فكّ أي عقدة هو إدراك اتجاه سيرها عشان تقدر تحدد النقطة الأضعف و الأكثر قابلية (للسَلت) و بالتالي تنحية أطراف الصراع. فيه أشخاص قليلو الصبر زي حالاتي بتواجههم عُقد شديدة السايكوباثية كربط الأمهات للأكياس البلاستيك، لا تُحل غير بإنها تُقطع، بمراعاة إنه محتويات أي كيس مهما كانت من الأهمية لا تستحق كل هذا الجهد المجنون للربط و الإغلاق و الاستعصا.

بتتدفق مشاعر و كلمات و أفكار بلا ترتيب و لا إحكام على الإنسان، و في حالة قرر إنه يعبّر، فبيكون دايما مضطر لاختيار بداية ما يتحرك منها لما بعدها. و هي الكتابة بشكل عام صوت فردي متتالي مهما كان تعقيده، يعني  على حد علمي مفيش ما يشبه (الهارموني) في الكتابة بحيث تكون كلمتين و فكرتين و شعورين مصاغين في نفس الوقت بتكوين جديد قادرين يحملوا معنى تالت جديد مستقل لكنه يحتوى على الصوتين الأساسيين. و مهما كان الكاتب (حرّيفًا) فهو بكل موضوعية هيرتّب الكلمات بطريقة أو أخرى. 

نَفس الشارع/نَفَس الشاعِر 

و لا تلاعب مقصود، دي الفكرة التالية اللي جَت مباشرة بلا أي ترابط مَعلوم (موضوعي) في ذهني، بعد الفكرة الأولى. فيه مراكز للغة و الأفكار و الذكريات في الكتلة الغامضة الجميلة اللي اسمها (المُخَ)، و بتنظّم الأمور بناءا على قواعد معينة، و الآن بنستدعي و نتأمل كيفية عمل الحاجات في الذهن بإننا نمارس الحاجات. مستوى واضح و أرضي جدًا هو عدد الحروف و الوزن و الحروف المستخدمة نفسها. و يمكن الفكرة التانية تلاقي لنفسها رُباط ما مع الفكرة الأولى بدون تكلّف، أو ممكن بتكلّف لكن لو أنا حرّيف أمحي هذا الجزء. و أنا مش حرّيف، أنا باتمشّى.

كل فترة أحاول أركز في نوع كتابة مُعيّن، و ألاقي نفسي بأُصيب نفسي بالملل، و أفقد المتعة و الانسجام و التآلف مع واحد من الأفعال القليّلة اللي كانت طريقي و طريقتي للخلاص من اللامعنى.

التعقّد أبدًا مش غاية في حد ذاته،و ميتبدأش بُه، و مش مُغري أبدًا الحقيقة، التعقّد الجميل اللي ناتج من قلب الحدث. خامسة بيتهوفين دايمًا حاضرة كدليل، على البساطة و التجريب و المحاولة و نقد الذات و هدها و بناءها، و في النهاية؛ بساطة متماسكة حتّى التعقّد. عند نقطة معيّنة عشان تقدر تبني شيء واحد محتاج تهد كل شيء و تبدأ تخترع المكعبات اللي هتشكّل بيها المعاني اللي هتفهمها إنت بسّ، و لو فهمها الآخرون، أو بشكل أدق، آخرون، ما يضرّش. المهم إنك تخلق عالم لا يصيبك إنت بالملل.

الشعر هو أكتر محاولة من اللغة إنها تقرب من المزّيكا، و أنا معنديش رؤية الشاعر و لا شعوره، و لا (خُلق) القاصّ للسرد و المدّ و الفرد. أنا تقدر تقول عني من (المعتزلة)، أهل المنزلة بين منزلتين.

باحسّ بالمجموع و الفرد في ضفيرة جدلية ما تنفعش كمان إنها تكون نصوص (نظرية).

من أنا لأقولَ لكم ما أقولُ لكم؟

لا أنا مش باقولُه لَكُم الحقيقة. أنا باكتبه، في عُلبة الماكينتوش المفرَغة من الحلوى و المليانة إبر و خيط، اللي هي هذه المُدوّنة.

الألم على الميزان

من أربع ساعات ما كانش لديّ أي شيء مما لديّ دلوقتي. لا الكلمات، و لا الرغبة.

نزلت أتمشّى لإنه في لحظة مُعيّنة، النور الفلورسنت اُعتيد و ضايقني و بَهَت و زنّت ذبابة الصمت في ودني.

و الأشجار توقفت عن إنتاج الأكسجين داخل البيت،و البيت بطّل يكون بيت، و القُطط بطّلت تكون أحبابي، و بدا إنه ابتلاع الغرفة ليّا هيُسفر عن لا شيء غير مزيد من الغضب الساكت.

أنا مش بانزل أتمشّى عشان أكسر الوحدة، و دا أمر يسترعي بعض التوضيح. ما اعتقدش إنه الناس اللي حبّت الوحدة و حبّتها الوحدة بتكون مشاكلهم مع الوحدة إنهم زهقوا أو ملّوا. الوحدة في الحقيقة وسيلة لإدراك إنه ظواهر (الزهق) و الضجر و الملل و السأم إلى آخر القاموس الوجودي هي ظواهر ليها مصادر مستقلة تمامًا عن الوحدة. في سنّ مبكر نسبيا أدركت، بالملاحظة فقط، إنه كل هؤلاء المشاة وحيدون، بكل الناس اللي معاهم و كل الصداع و الصراخ و الصياح و الرواح و المجئ و الحركة الكدّابة التي لا تسفر عن شيء، هم وحيدون أكتر منّي كمان، لكن محدش عنده أي استعداد و لو ضئيل إنه يبحث عن حلول واقعية لهذه الشتات الجماعي و الدياسبورا الداخلية بدون أي سَفر و لا ترحال و لا (غربة) مكانية. ثم جاءت الماركسية قدّامي لتلقي ظلال على غربة الإنسان ككل لأسباب (واقعية) و بالتالي مشاريع حلول واقعية.

مش بامشي عشان أكسر الوحدة، و إن كنت بانزل في الحقيقة عشان بتواجهني مشاعر مش دايمًا باقدر أتعامل معاها. و مش كل المشاعر يجب إننا نقدر نتعامل معاها بنفس القدر و بنفس الطريقة على كل حال. بانزل و بينزل بيني و بين الشارع عازل زجاجي و كإنه أثير لكنه كثيف جدًا هو قوام للحركة فقط، مادّة للوجود مش الوجود نفسه و لا منشود في ذاته.

أوقات أنزل أصوّر، فأحاول أكسر الحاجز الزجاجي عشان أعرف الناس أكثر لكنه الشارع ما بقاش للناس، بقا للجموع اللي تخلّت عن إنسانيتها بغير وعي. و لا داعي لا لجلدهم و لا الشفقة عليهم. الداعي الوحيد هو لتغييرهم، لتغيير واقعهم، عشان تكون مادّة الوجود ممكنة للاستهلاك الآدمي. 

بغضّ النظر عن ذلك؛ باتمشّى عشان أسمع نفسي أحسن، يمكن باعرف نفسي بالتناقض بيني و بين الناس (أحيانا)، و بالتشابه أحيانًا أخرى. و يمكن الأمر بسيط جدًا لدرجة إني بامشي بس عشان الزحام بيشكّل خلفية لنقاشي الداخلي/الخارجي. 

من مميزات الحُزن إنه شعور قادر على تجديد العالم البارد المقيت حولك. من فترة تعلّمت إن الحزن لا يقتضي الرعب و عمل أي شيء للهرب منه. بقيت أراقصه و التمشية رقصة بتخفف الحركة العشوائية للحزن داخل التجويف اللي اسمه الإنسان و بتخلّي الحزن يكلّم الحزنّ في العالم. بطريقة أو بأخرى؛ فالحزن شعور لا يحبّ الوحدة، لكنه الوحدة بتحتويه و المشي بيصاحبهم على بعض و على باقي مخزون الحزن و الوحدة في العالم. 

(التشبيه) لعبة ليها سحر رغم كونها قديمة و لإنه التشبيه المكرر أو البارد أو المفتعل بيثير السخرية أكثر ما بيثير أي انفعالات حقيقية داخل الإنسان، لذلك، تلاقيني باحاول أتجنّب أي تشبيهات، و أحكي العالم عبر الصور الذهنية اللي بتمر أمامي و كإنها حقائق موضوعية مقتطفة من فيلم وثائقي. و أي تشبيه وارد أو تشابه مع الواقع هو و بكل تأكيد لمن محض واقعي و خيالي الواقعي.

 

قطعت تذاكر لكن ما سافرتش*

أي حاجة حصلت داخل راسك فقط فهي ماحصلتش.

هي حقيقة بديهية لكنها دايمًا صعب تقبلها، تقدّر تبلعها بلعنات و سباب لكل ما أدّى إلى ذلك، يمكنك أن تتحول من الإنكار للغضب للتقبل، و يمكنك أن تتجاهل كل اللي هيتبني على دا من تفكير سواء إيجابًا أو سلبًا، وجودًا و عدمًا.

الصورة الحلوة اللي تصوّرتها تكوينًا فهي لمتعتك إنت ذهنيًا فقط داخل رأسك متوسط الحجم. مفيش مفرّ إطلاقًا من إنك تصورها عشرين أو تلاتين مرّة قبل ما توصل لفتحة العدسة الملائمة و سرعة الغالق و حساسية الضوء و توازن توزيع الضوء. بالخبرة العشرين و التلاتين مرة ممكن يقلوا لتلات مرات. بس حابب ما أطمنكش إطلاقًا و ألفت نظرك إنه مع الخبرة ما يأسر العين يتغير، و يتعقّد، و تفضل العشرين و تلاتين محاولة قابلين للزيادة. التعلّم و الخبرة الزيادة هي عوامل شكّ مش يقين لكنها مشروع طريق سليم دايمًا، و (الجمال) بيتفلّت من علاقة غير قابلة للحسم و راقصة بين العلمي و العملي و الشخصي و الحظ، الصدفة، اللي هي في صفّ من يفهم الإحصا و يزوّد نسبة احتمالات قربه من الجميل و الحقيقي بكل رمية نرد و كل ضربة ريشة و كل (إطلاق) لغالق العدسة..هكذا. 

مع تنامي علاقتي بالكاميرا؛ في مصر بيتعرض حامل الكاميرا لجنون ارتياب من جموع المصريين و السلطة على السواء لإنه فيه إقرار لاواعي إنه هذه البتاعة قادرة على تسجيل حقيقة قبيحة جدًا ( في نظرهم) ، لكنها الحقيقة، جميلة بالضرورة لإنها بتخلق الشك في الإنسان و بتفتح له باب الحرية الغير مريح. محدش أبدًا يحب الحقيقة. دايمًا باجد الصور الكاملة، قبيحة، تافهة و سافلة و سخيفة و تستحق طباعتها فقط من أجل مسح المؤخرات. مع تنامي علاقتي بالكاميرا، اللي هي طريقة أخرى في خلق مشربية أطلّ منها على العالم و تثبيته للحظة في محاولة مني لفهمه بعَبَله، و مع جنون الارتياب، و مع الملل و القبح الحقيقي المنظّم في كل وجه و كل مجموعة، و التكرار و الملل و كل هذه الإكسسوارات و الكهارب و الكباري و الأرصفة و السيارات و الزبالة و الطوب الأحمر و العشوائية في كلمة، فقدت محاولتي للمخاطرة وسط الشارع عشان أصوّر تكوين ما، عشان أنا مش نازل أبرّر وجودي لكل فرد في المشرحة، و بقيت ميّال للشوارع الجانبية و الحيوانات و كل مظاهر الحياة باستثناء الإنسان، و المباني الجديدة.

 

تَسلُّل

العطوف و الحارات و الشوارع الجانبية لعبة تانية. تقدر تسرق غنوة بصوت عالي نسبيًا ليلا. تقدر تسرق مكالمة جميلة مع الحبيب/ة غير مضطر تصرخ فيها من رئتيك عشان الطرف التاني يسمعك. هواء مختلف، كإنه هربان هو الآخر من الرطوبة و الحرارة و التدافع. الشوارع ليها شخصيات و لو حبّتك بتعرفك على شوارعها الجانبية الأصدق و الأجمل و اللي ما تآكلتش تمًامًا بعد. وجوه مسالمة قادرة على التبسم و التنفّس أخيرًا! عند نقطة معيّنة تقدر تسيب نفسك تمامًا لما تثق في حكمة الطرق و هي بتعرفك على بعضها و على ما تبقى من حياة خافتة فيها. حابب أفكّر في المكافأة غير المقصودة دي كإنها الرضا بحلّ الخيط بعد الصراع مع العُقدة.

بانسحب من الشارع الرئيسي للطرق الجانبية، و هي كل مرة النتيجة نفسها للغرض ذاته؛ الرواح للبيت عن طريق تفريعة جديدة في كل مرّة، و بكدا بقا فيه ألف طريق يؤدي لي و ألف طريقة تؤدي للامكان.

باحب أتصوّر إني باكتشف طرق لا يعلم عنها أحد، و بالتأكيد مش هاعرف عنها أحد. في وقت ما بيكون ع

زاءك الوحيد هو المسالك المختلفة الخاصة بيك و حتى إن كانت تقود لألف لا مكان.


--


* من أغنيّة "هزّني"- فرقة المصريين.

 

الخميس، 17 أغسطس 2023

فيفيان دوروثي ماير

تاريخ شخصي 

1 

حُبّي للتصوير كان مُبكّر، و لا داعي للقلق فدي مش سيرة ذاتية. أنا لا أحد. أنا مجرد أحد الرواة اللي بيحكوا الحدوتة. كُنت بافتح ألبومات صور عائلية و تفتنّي (من الفتنة، أشدّ من القتل) ألوان الصور في الإطار البلاستيك الرقيق الشفّاف. صور لناس أعرفهم، و ناس ما أعرفهمش. ناس باحبهم و آخرين باكرهم. لكن بكل تأكيد اتعلّقت بيهم عبر الإطار المستطيل، و الألوان القديمة الباهتة، و الثبات، و رغبتي/سؤالي اللي كان بيتفتح مع كل مرة: ياريتني كنت في اللحظة دي أعرف اتحرّكت إزاي و وصلت إزاي لهنا!.

بابا_ الله يرحمه_ كان عنده كاميرا. بعد وفاته بدأت اتعرّف عليه أكتر، و اكتشفت إنه عنده حب حقيقي للتصوير. صور تلقائية، و صور تانية (مُكوّنة) بعناية. أصدقاء في مناسبات، صور ليه هو شخصيا من مراحل مختلفة. و باختلاف تاريخ التصوير و نوعية الأفلام الموجودة، و رغم ضيق ذات اليدّ معظم العُمر، إلا إنه كان حريص دايمًا، مهما كان ارتباطه أو عدم ارتباطه باللي بيحصل، إنه يصوّره. يصوّر مناسبات عائلية بادي فيها نفور الجميع من الجميع. في استوديو أو في البيت. صورة عائلية لأختي عُمرها ثلاث أو أربع سنين بتبكي خايفة من العدسة و الفلاش، و هو بيضحك بمنتهى الحرية البلهاء و الحيوية. كُنت في رُكن الصورة دي تحت. هل أنا كًنت في الصورة أصلًا؟ مش لاقي الصورة و مش قادر افتكر اللحظة الحقيقية. الواقع الحقيقي اتمسح تحت سلطة ثبات الصورة. تثبيتها للزمن و هو بيتحرك، و تثبيتها للزمن بعد ما يتحرك. في سفرية قصيرة برّا مصر ، طلبت من بابا كاميرا. أنا طلبت من بابا حاجات كتير  و دي الحاجة الوحيدة اللي جابها، على مرّ السنين. 

2 

في لحظة ما من حياتي كُنت قررت الانتحار. و أنا قررت الانتحار عدة مرّات. بس المرّة دي أتذكّرها جيّدًا. ليه؟ لإنها ارتبطت بذكرى؛ أنا أمام الحوض، و جمّعت كل صور موجودة و مطبوعة ليّا في الدنيا ، ولّعت فيها. وقفت اتفرّج و أملّي عيني باللحظة اللي بتنكمش حتى تصبح عدمًا خالصا. و باشمّ احتراق الأدلّة. الانتحار الحقيقي مش إن الإنسان يموت. الانتحار الحقيقي إنه ما حدش يعرف إنه كان هنا من الأساس.

-

صوت 

الأسئلة دايمًا أهم من الإجابات. الأسئلة مُغرية و مفتوحة كنَدبة. جونلّة. الأسئلة أنثوية.

و أهميّة الأسئلة بيقيسها اتساع اجاباتها، و عدم حسمها. 

لماذا؟-تمهيد. 

بيعيش الإنسان زي أي كائن حيّ آخر و غرضه استمرار نوعه. غرض النوع بالتأكيد استمرار نوعه. بالتزاوج و التوالد و الخلق و القتل و التوسّع و كل شيء في ترسانة الجينات للاستمرار. و الوعي، كإنجاز (مادي) للنوع البشري بيفرض بقاؤه، و بيقاتل بكل ما أوتي من لَوَع للانتصار على الفناء. 

علم اللوع أضخم كتاب في الأرض

بس اللي يغلط فيه يجيبه الأرض. 

رُباعيّة لصلاح جاهين.

و اللّوع، في رأيي، هو الطفرة. هو الخلق الدايم العنيف المبني علي النزاع بين مستقرّات. في اللحظة الأقل توقعا خطّيا، و اللحظة الأكثر توقعا لا خطيا، بتيجي الطفرة. تبدأ تدرك نفسها في تخبطها في العماء. الطفرة هي ببساطة تهديد الموت لكل ما هو حيوي و مستقر و (منطقي)، ساعتها الحياة فقط بتشحن بطاريتها و تسنّ سكاكينها و تستوعب الخطأ و يبقى جزء من التيّار و هكذا..

و مع الإقطاع، ثم الرأسمالية، و تطوّر ثقافة الإنسان بعد الحرب العالمية الأولى و التانية، بتزيد قيمة و وعي الإنسان بفرديته، و للمفارقة و مع الأسف، باغترابه. بيبتهل الإنسان و يتهلل لتفرّده بتجربته الشخصية، كل واحد يعني فرد في حد ذاته. نفس السكينة اللي وجهها الإنسان للعالم طعن بيها نفسه!

حابب أفكرك إنه دي مش سيرة ذاتية، لا لذاتي ولا لذات فيفيان دوروثي ماير. 

21 أبريل 2009 

بتموت فيفيان ماير. عمرها  تلاتين ألف تلتمية ستّة و تسعين يوم. أربعة آلاف تلتمية اتنين و أربعين أسبوع و يومين. ما اعرفش ليه ما بيتمش حساب المدّة اللي قضاها الشخص في الرحم لحياته؟ تسع أ و سبع شهور ميلادية يتضافوا لرصيدك الفعلي. يمكن عشان الوقت دا ما بيكونش فيه واعي و لسه بيتكوّن؟

طيب ما إنت بتتكوّن برّا. الرضاعة و الحفاضات و المشَايات، تلقين اللغة و الأخلاق و العادات.  التعليم و التمويل حتّى التخرّج مثلا على الأقل من ثانوية عامّة. نطرح التمانتاشر دول من حياتك؟ طيب و الوقت اللي نمت فيه؟ تلت حياتك لو متوسطها خمسة و سبعين عام. يعني حوالي خمسة و عشرين سنة نايم و تمانتاشر بيتم  رعايتك ( في الظروف المثالية). طيب و الأكل و الشرب و الجنس؟ و الحمّام؟ إحنا  كتبنا الأدب و ألّفنا المزيكا و حطينا العلوم و قمنا بالثورات دي كلها إمتى و في قد إيه؟ و العمل المأجور؟ يوم العمل كان اتناشر ساعة ( و مازال في بعض الوظايف)، قِصِر على الورق بالتأكيد لكن مازالت الشروط المستعبِدة الظالمة لأغلب سكّان الأرض حاصلة. طيب و المواصلات؟ طيب الناس اللي بتتمشّى للعمل؟

معظم الحضارة أنتجتها طبقة كان عندها وقت فراغ أكبر لإنه مهامها اتحطّت على عاتق طبقة تانية. 

في المنتصف تقريبا 

فيفيان بتنزل تقضي وقت فراغها في التمشيات الطويلة. تصوّر. تسجّل حوارات بينها و بين الغرباء اللي بتصورهم. تخلق شخصيات متعددة بلهجات مختلفة و تاريخ منفصل تكلّم بيه موضوعات صورها و تقرب منهم. كانت أحيانا تصطحب حد من الأطفال اللي بتربّيهم ( كانت مُربّية قرابة الأربعين سنة) و تتحرك معاه لأطراف المدينة (شيكاغو) الأكثر خطورة.


1959, Grenoble, France. © Vivian Maier/Maloof Collection.

لماذا؟-1 

فيه منطقة من ألفين و عشرة لألفين و تلاتاشر ، مواليد آواخر التسيعنيات و أواخر التمانينيات كانوا بيتفرموا فيها. أنا دخلت المفرمة دي و حاليا بارجع، بعد ما يزيد على العشر سنين افتكرها كشذرات. ذكريات متقطعة ليها أصل ما غامض و باهت و مشوّش في الماضي. في العشرين تلاتة و عشرين ظهر ناس و ذكريات لم تغلق من الألفين و عشرة و حداشر و اتناشر و تلاتاشر. و لولا إنه القوس كان مفتوح و متوارب ما كنتش أصلًا هافتكر الأحداث و الظواهر دي كجزء جديد في الحكاية القديمة. 

في نفس المنطقة دي فاكر إني شفت لأول مرّة  أوّل صورة لفيفيان ماير. امرأة بملامح محايدة أقرب للقسوة. شعر قصير. كاميرا موجهة لمرآة. المرأة توجّه الكاميرا للمرآة و خلفها مرآة. و في داخل الصورة الواحدة تتكرر نفس المرأة و المرايا ملايين المرات (نظريا) من الأمام و الخلف. دي مش سيرة ذاتية ولا هو تحليل لعمل فيفيان. أعمال أخرى حازت المرايا و الظلال و انعكاسها  مساحة كبيرة من منتجها شديد الضخامة (قرابة الميه ألف صورة). 

مش فاكر شعوري وقتها. بس فاكر إنه المرحلة دي كانت الحاجات ( عشرينيات العمر)، كل الحاجات بتعدّي سريعا. عملت (لايك) للصورة و مرّيت. مش فاكر بحثت عن اسم المصوّر وقتها ولا لأ. مش فاكر. كل اللي فاكر إني حاسه إنه المرايات والانعكاسات كانت تيمة في السوريالية و خصوصًا عند رينيه ماجريت ( تشكيلي بلجيكي). دلوقتي، و أنا بادعبس في تاريخ فيفيان، لقيتها أصلا مش أمريكية. الأب نمساوي و الأم فرنسية. و جزء كبير من طفولتها كان في انتقالات بين أميركا و بين فرنسا عند أقاربها. حتى الملامح، مش أميركية تمامًا. أوروبيّة. 

دلوقتي، من فترة على وجه التحديد، كان بيطاردني الاسم، اللي مش فاكر فاكره منين و إزاي بالوضوح دا. و كانت بتطاردني البورتريهات الشخصية اللي شفتها هنا و هناك لفيفيان في المرآة، لفيفيان و انعكاسها في واجهة المحال، لظل فيفيان في كاميرا فيفيان. 


Self-Portrait, 1956. © Vivian Maier/Maloof Collection.

استطراد 

ألف 

باحب لاعبات البيانو. باحب عزيزة زادة و مارثا آرجيرش. باحب المصوّرات. سالي مان و ديان آربوس و فرانشيسكا وودمان. العالم جميل و غريب من عينين امرأة، و حزين. فيه مخرج مش فاكر اسمه ( باعتذر عن عدم تذكري لكن مفيش وسيلة لحفظ الذاكرة من الضياع غير بكتابة و تدوين و تصوير و توثيق كل شيء) قال ما يعني إنه السينما هي مشاهدة امرأة جميلة تطلق النار. شيء بالمعنى دا تقريبا. في فيلم (الاحتفال) 1995، إخراج كلود شابغول*، بتقف كل من إيزابيل هوبيغ و سودنغين بونيغ* موجهتين بندقيتين ( مش مهم لمين و مش مهم حصل إيه لكن فيه جمال ما،  و غير مازوخي بالمناسبة، في امرأة تمسك بسلاح ناري).

الاحتفال إخراج كلود شابغول

باء 

في اللغة الإنجليزية التصوير و إطلاق النار ليهم نفس الكلمة، باختلاف السياق. و أكيد اختيار الفعل في حالة التصوير تابع لإطلاق النار. و المشترك الوحيد بينهم إنهم بيسابقوا الزمن بغرض تثبيته و إيقافه، تمامًا، و للأبد. قسوة لا يمكن أن تمارسها إلا امرأة. 

لماذا؟-2 

الوقت اللي كانت فيه فيفيان دوروثي ماير بتمتهن مجالسة الأطفال، و بتنزل تصوّر و تحتفظ بالصور لنفسها، و بتبيع من بواقي ممتلكاتها على لفّ العالم، عشان تصوّر، و ترجع أميركا تكمّل مجالسة الأطفال. مجالسة الأطفال، اللي مش أطفالها، و دايما هم أطفال الآخرين، و تكمّل تصوير في أيام العُطلات، كان الوقت دا، في العالم، هو عصر ذهبي للتصوير و المصورين. دا وقت كان فيه ريتشارد آفيدون، هنغي كاغتيغ بغيسُّو**، ساول لايتر، روبرت فرانك، روبرت مابلثورب، غوبيغ دوانو***. دي الأسامي اللي حاضرة في ذاكرتي الآن. في الوقت دا، كان أكثر شيء منطقي لمُحب للتصوير، و مصوّر إنه ينشر أعماله.

السؤال واضح يا فيفيان. ليه ما قمتيش بنشر أعمالك؟

الحقيقة ما حدش يعرف أبدا الإجابة. ممكن تتكهن مثلا إنها كانت خايفة من حكم الآخرين، أي آخرين، و قدرتها الوحيدة هي مواجهة نفسها (رمزيا) في المرايات، من خلال الكاميرا كمان، و المواجهة تسجيلية مش أسطورية كمان. يعني محض تدوين لوجود مواجهة بدون انتصار ليها على الظلّ ولا للظلّ عليها. 

( الظل مفهوم طوّره عالم النفس السويسري كارل يونغ للتعبير عن النسخة المُخفاة، الأبعد مننا، جنسي و غير جنسي). 

بالحديث عن الجنس.. 

لماذا؟-3 

جليسة أطفال مُحترفة لمدة أربعين عام. بالتأكيد عندها من المهارة و حسن المعشر و فهم الطفل اللي يخلي الصغار يحبّوها.  ما شكل حياتك العاطفية يا فيفيان؟

و أنا باقرا و بادوّر لا يبدو إنه فيه أي ذكر من أي نوع لحياة عاطفية خاصّة. الملامح المحايدة و غموض السردية الشخصية، و التصوير بلا أي هدف أكبر من التصوير في حد ذاته، حسيت منها كإني قدام كائن غير أرضي (فضائي) جاء الأرض في مهمة واحدة مش واضح لهاغير هدف واحد، تصوير البشر بشكل جميل. الكائن الغير أرضي النازح من السماء يبدو إنه كان بيحاول يتعرّف على نفسه في غمار استكناهه للآخرين.

هل مارستِ الحُب؟ إزاي الإنسان هيقدر ينتج فنّ و هو لم يختبر الحب؟

الفيلم الوثائقي البحث عن فيفيان ماير بيرد بوضوح على السؤال دا، من وجهة نظر اللي عرفوها يعني.

لقد كانت وحيدة، لم يكن لها أطفال أو عائلة. لكنها كانت بمثابة أم بالنسبة لنا- شهادة أبناء واحدة من الأسر اللي اشتغلت عندهم فيفيان كجليسة أطفال. لكنّ أيضا الناس كانت بتقول إنها (غامضة) و تفضل الخصوصية. احتفاظها بالأفلام غير مُحمّضة في مخزن، مع هواية أخرى في تجميع الجرايد، الوصولات الحكومية، تذاكر المواصلات. كل شيء في حكاية فيفيان عكس كل شيء في حكاية فيفيان!


Self-Portrait, 1954. © Vivian Maier/Maloof Collection.

استطراد-نيجاتيف 

مفيش فيلم مُظهّر واحد في حياة فيفيان. استخدمت في رحلتها مع التصوير عدة كاميرات، منهم نوع ببساطة كانت تقدر تشوف التكوين النهائي قبل ما تحرّر الغالق.

Release the shutter- ترجمة حرفيّة

و بشكل عام فكل الكاميرات تقريبا تقدر تشوف المشهد قبل ما تدوس على الزرّ. بفرق بسيط إنه المشهد النهائي بعد سماح مرور الضوء من العدسة و تدوينه على الخام مش بالضرورة يكون بنفس ما ظهر في عينك و عين الكاميرا. عشان كدا التصوير بيحتاج تدريب كتير و مقارنة و تجريب و نقد ذاتي.

كانت إيه مساحة النقد الذاتي في تصوير فيفيان ماير؟ و هي على ما يبدو ما كانتش بتظهّر صورها بعد ما تصوّرها. مؤلف موسيقي بيكتب نوتات و ما بتتحولش لصوت أبدًا غير في أذن صاحبها. مثال بلا فعل. و لو فعل فهو فعل مُجهض ناقص، مفروض عليه التشظّي بلا هدف.

ما بافضّلش اصدّق إنها ما ظهّرتش صورها عند مرحلة ما، أو على الأقل جزء من تصويرها (شافته). فيه دراما مُبالغ فيها هنا (معلومة إنها ما شافتش صورها) مش محتاجين ليها. 

تاريخ شخصي 

3 

في الألفين و اتناشر، تنامت رغبة لديّ في إني اقتني كاميرا رقمية و أصوّر. رغم حبي اللي كان و ما زال لتصوير الفيلم لكن بدا إنه بشكل واقعي الرقمي أرخص و عملي، لإنه مفيش حد للمرات اللي ممكن تجرّب فيها قبل ما تقرر النسخة النهائية من التكوين اللي هتحتفظ بيه. بخلاف الفيلم اللي معاك 36 محاولة مش بالضرورة يكونوا جيّدين. مع الرقمي اتوجدت إمكانية واقعية لمحو الفعل. للتملّص من الخطأ. و مع السهولة النسبية تزايد أعداد المصوّرين بشكل جنوني. في مصر بس، و في محيطي، كنت أعرف فوق الخمسة أو الستة. كلهم كانوا (مُصوّرين) و الحزين إن ثقافتهم البصرية كانت ضئيلة و محدودة. و ما أقصدش أبدًا (كم) المشاهدات اللي شاهدوها. لكن لم يكن عندهم (نظر). العين المُبصرة و البصيرة كانت عمياء. مازلنا عايشين الكارثة دي. بل تزايدت بتزايد الهيستيريا على نشر و صناعة المحتوى، البصري، لإنه سهل و (بيوصل). بوجود منصّات مُكرّسة للتصوير فالكل بقا يسترزق و يُحط صوره في وشنا. إنستاغرام لو فتحته هيوصل لك إحساس إنه كل المصريين مُصوّرين، و كلهم رائعين و مُدهشين و مُلوّنين، كإنهم عايشين في مصر غير مصرنا. و بينزلوا شوارع غير شوارعنا (حقيقة!)

طبعًا، ما اسعفتنيش الظروف في شرا ء كاميرا قبل الألفين واحد و عشرين. جبت الكاميرا الرقمية و كنت ماشي أصوّر كل شيء، باتعلّم. ثم، مع الوقت لقيت نفسي يا إما باكسّل يا إمّا باخجل أنشر صوري اللي بالكاميرا. لإنها مش كاملة، و مش على إيدي، و محتاجة معالجة لونية (الرقمي أكبر كوارثه إنه ما بيديكش أبدًا روح الفيلم، و لازم تصلّح صورك بالمعنى الحرفي، مش تظهرها، و دا شيء لحد الآن غير منطقي بالمرّة. لكني راجل تلاتيني، بقيت أعرف ما اقتنعش بشيء و أدرك حدود الواقع مع محاولاتي المستمرة لتغييره. بالاقي نفسي بانشر صور بالموبايل، رغم كراهيتي لكاميرا الموبايل و سطحيتها، إلّا إنه تعديلها أسهل. أنا أصلا باصوّر عشان اعرف أتواصل مع العالم بدون حديث فعلي. التعرّض للآخرين الآن أمر مخيف. و الكاميرا هي الدرع و السلاح اللي باحاول اتعامل بيه مع العالم الموحل الموحش دا، زي منظار الرؤية الليلية. أمّي نصحتني كذا مرة إني أبطّل ألبس نضّارة و أعمل عملية تصحيح للإبصار بالليزر. كنت و ما زلت بارفض، لإنه النظّارة بتفصلني عن العالم، و بتربطني بيه في نفس الوقت.  أنا مش عاوز أفضل حاضر في العالم غصب عنّي! 

إجابة..نوعًا ما! 

من الشهادات اللي بيسردها معارف فيفيان، يبدو إنه كان عندها نوع من (القرف) تجاه الرجال، و تجاه (الجنس) و التلامس.  إزاي ممكن تكره معنى، أو شيء إلا لما يضرّك؟

البشر طوّروا (القرف) كتقنية حفظ للنوع، كنوع معيّن من الخوف و الرهبة تجاه الغريب. الصراصير و الفئران نالوا  فوق حظهم من القرف، و تطوير القرف دا  لخرافات و أساطير و ارتباطات دينية و ثقافية عدّة. عند المسلمين العرب مثلا فيه هذه الكراهية و القرف و الرعب من (البرص). زاحف أهبل بنّي مائل للصفرة، و قادر على التجدد! مين إنت يا حقير في سلم التطور عشان تتجدد و تقوم من الرماد و تنبت ذيل بدال المقطوع؟ فهنلاقي ربط بين القرف دا و قصص ليها علاقة بالنبي إبراهيم شديدة البلاهة، لكنها بتورّيك قد إيه الإنسان قادر على (عقلنة) مخاوفه.   

تَعَرُّض 

الصورة، فيزيائيا بتتكون من تعرّض سطح حساس للضوء، للضوء (بالطبع!)، عن طريق عبور الضوء من طريق ضيّق نسبيا و حضوره داخل (غرفة مظلمة) (المعنى الحرفي لكلمة كاميرا هو غرفة-اللغة الإيطالية، واللي فيه احتمال إنها جت من كلمة قُمرة العربية لإنه صاحب الريادة في تجربة الغرفة المظلمة كان ابن الهيثم، بس تاريخ التجربة أقدم من كدا و مفيش نظرية حاسمة بتؤكد المصدر العربي للكلمة). الصورة، هي نتاج حرفي لصراع النور مع الظلام. في الخمسينيات و الستينيات كان تصوير الأبيض و الأسود هو نوع التصوير اللي يُعدّ (فنيّا)، و استخدام أفلام ملوّنة كان بيعامل بعدم اهتمام بل بشيء من الطَرد و الرفض باعتباره مش فنّي تماما. الأبيض و الأسود كان و مازال حقل التدريب المثالي للتصوير. إدراك درجات النور و الظلام و التحكم فيها، أو بالأحرى، الإصغاء ليها و استخدامها.  الأبيض و الأسود صراعهم واضح و مباشر، لكن الألوان؟ ببساطة، مُلوّنة!

في وقت من الأوقات تواصلت فيفيان ماير مع معمل تحميض و طباعة في فرنسا (أثناء وجودها في الولايات المتحدة الأمريكية) عشان يظهّر بعض أعمالها ( يعني كانت مدركة و وواعية بالفعل بجودة ما تعمل، و كمان كانت في اتجاه لمشاركته مع العالم، لكن مش في أميركا).

باحسّ إن حياتها نفسها، بوعي تام منها، كانت بتبنيها على الصراع، على القتال بين التعرّض و الاختفاء. الانفتاح على العالم و الانزواء عنه بعنف. التصوير من غير تحميض. التحميض من غير نشر. الحديث مع ناس من غير مشاركة الحقيقة ( كانت بتتصنّع لهجة فرنسية، و تكرر استخدامها لأسماء مستعارة). ولا ما كانش بوعي منها؟ كانت ابنة مخلصة لقوانين الطبيعة و بتدوّنها، بوجودها.

الصورة اللي انتصر فيها الضوء بايظة، بيضاء. و الصورة اللي بينتصر فيها الظلام تالفة، مظلمة و سوداء. 

Self-Portrait, Undated. © Vivian Maier/Maloof Collection

(الفقراء أولًا يا ولاد الكلب!)-الصحفي الراحل محمد أبو الغيط. 

عرفت محمد أبو الغيط الله يرحمه من مقاله السابق ذكر اسمه، في غضون أحداث يناير ألفين و حداشر. لسبب ما، ذاكرتي مُصرّة تحط الأحداث في عام ألفين و عشرة. أنا أتذكر الأحداث اللي شاركت فيها كإنها ألفين و عشرة. يمكن لإنها في أول ألفين و حداشر؟ يناير يعني؟ كنت ساعتها بادرس و عامي الدراسي هو اللي التقويم المسيطر مش الميلادي ولا الهجري. في الألفين اتنين و عشرين عرفته قبل وفاته بأسابيع، من كتاباته الموثّقة للإقبال على الموت، طبيا و أدبيا. بعد وفاته نُشر كتابه أنا قادم أيها الضوء. باستعد لقراءة الكتاب بعد ما أنهي كتابة. 

الضوء. هو أنا قلت إنه دي مش سيرة ذاتية؟ لأي ذات كانت أنا أو فيفيان؟ صح؟

في مدينة كبيرة، مركزية و مزدحمة زي نيويورك، محتاج تمشي و تتجه لأطراف المُدن. تبعد عن المركز قدر الإمكان و تتبّع الأطراف، أطراف الحديث. الهامش. العفن و العشوائية في سريانها اليومي. العنف. البؤس. القبح. المرض. الموت. البطالة. المخدرات. تجارة الجنس. المُشرّدين. آه، في المركز و الزحام قلّما هتشوف ما يقرفك، يخيفك، يتحدّاك. في المركز قبح مركزي بلا أي جمال يُذكر. مركز كل شيء مش المدينة بس. الناس ذاهبة للعمل أو خارجة من العمل. في سياراتهم أو في المواصلات أو على الأقدام.

الجمال القبيح أو المستفزّ بيخرج من الأطراف، أطراف كل شيء. الشمعة ما بتحلاش في العين إلا قبل الانطفاء بثواني. الضوء أجمل و هو أخفت. قلّما أمكن تستخرج جميل وسط الزحام.

كُنت باتمشّى، حلقات الشعر و تيشرتات النوادي الأجنبية بتخبط عيوني زي المسامير. كلاكسات التاكسي و التكاتك و كل المتكدسين المتكلسين بتكسّرني و  بتدعوني للانكماش. مستوى الضوضاء مليون ديسيبيل! أكوام لحم بلا روح بتتقاذفني و بتحوّل تمشيتي لجحيم من استحالة النظر أو السماع أو الاستماع لأي شيء. أنقذني من السُعار دا محلّ أنتيكات لقيت عنده بيانو قديم حاولت أمشي إيدي عليه، ألعب أي سلّم من اللي اتعلمتهم.من الطفولة و أنا باحب البيانو و أتمنى لو قدرت اتعلمه في يوم. اللحظة اللي كان إصبعي بيلمس فيها مفتايح البيانو ثم ييجي الصوت ناعما و بعيدا كانت نورانيّة. كُنت كإني باناضل للخلق من جديد و خلع رداء العالم دا عنّي. ثم انتصرت الفيزياء، مجموع صوت الكلاكسات انتصر. و مشيت بعيد عن البيانو مهزوما و مسرعا.

التمشيات تحلو بالتأكيد على أطراف المدينة، و القاهرة ما بقتش مدينة. القاهرة طرف مدينة كلها مزدحم و كلها يصرخ و كلها يقتتل على أي و كلّ شيء.

كانت تمشياتها في أطراف المدن و الأماكن اللي عاشت فيها، فيفيان. و كانت زي كل مصوّر قرر يمسك الكاميرا و يُطلق، موضع شك، و تحفيز و استفزاز للمارّة أصحاب الحظوظ الأقلّ على الإطلاق. بترسانة من الحيل و التلاعب، و لظرف موضوعي جدا هو إنه الكاميرا الأساسية بتاعتها ما كانتش بتضطرها تبص للناس في عيونهم فغالبا كانوا بيشكّوا إن كانت بتصورهم أصلًا. 

November 1953. New York. © Vivian Maier/Maloof Collection.

نهايات 

الأولى 

ما حدش أبدًا بيرد على سؤال ليه الوحدة حزينة؟ برا نطاق علم النفس و الاجتماع. مفيش حد بيثبت حقيقة ذهنية عن (لامنطقية الوحدة)، و إنها نزوع للدمار يرفضه المنطق التركيبي. بتروح الإجابات لمكان ما في إطار كون الإنسان كائن اجتماعي، و كإن دي حقيقة نهائية. و المفارقة، إنهم بيستخدموا نفس الحجّة في تفسير تعاسة الإنسان الحديث اللي فرديّته تسرطنت، و كإنه علم النفس و الاجتماع دورهم التفسير باستخدام تاريخ وصفي (محدد) للنوع الإنساني و غير قابل للتطوير، بحجة إنه عمر الجماعة الإنسانية نفسها قصير نسبيا بالنسبة لتاريخ ظاهرة الحياة.  ربّما ما عادش حد عنده جرأة التخيّل و الحلم و التفلسف برا (المنهج) العلمي. العلم اللي كان دوره هو الحركة للأمام و للأوسع و لإنارة الطريق (عصر التنوير) بقا فقط و حصريا بيعبد نفسه و منهجه و مقدماته و نتايجه بغض النظر عن (جمالها). العلم اعتاد إنه يكون جميل، لحد ميكانيكا الكمّ. و طبعًا مفيش مفارقة خالص إنه العلم الفيزيائي الجديد المبني بالكامل في العالم الأوّل الرأسمالي، يكون محوره مفهوم زي (الكموم) أو (الكمّات). علم مبني فقط على استغلال العالم و موارده المذهلة حتى على مستوى الجسيم تحت الذري.

ليه الوحدة حزينة و ثقيلة؟ و ليه الإنسان مش قادر ينتصر على مفهوم سائل لا بالأدوية و لا بالعلاج النفسي؟

و لا بالإنتاج، و لا بالظهور، و لا بالتواصل، و لا بالعزلة، و لا بالجنس؟ و لا بالدين؟

ليه الإنسان دلوقتي فشلت كل إجاباته في الإجابة عن سؤال الوحدة؟

هو أصلا المفروض نبحث عن (حلّ) للوحدة؟ هي الوحدة مشكلة أصلا؟ و هل فيه حد آمن و فاصل بين الوحدة الصحية و بين الجنون؟ أو بين الاختلاط مع المجتمع و بين الانسحاق؟

بنخاف عشان هنموت؟ هو هيحصل إيه لو إنسان ما تم تخليقه في بيئة معزولة ما تعرّفوش أي حاجة عن الحزن و النقص و الموت؟ هو إيه الموت؟ متهيألي مفيش إجابة شافية أو شرعت حتى في الرد على السؤال دا فعلا. الشروع في الإجابة على الموت هو شروع في الرد على كل شيء. 

ليه توقف الإنسان عن التفلسف؟ ليه توقف الإنسان عن التفلسف؟

ليه توقف الإنسان عن التصوّر؟

و ليه بطّلت فيفيان التصوير؟ و ليه ماتت بهذه الطريقة؟ أو بطريقة غيرها؟ 

المُثنّاةُ ذات الطبيعتين 

و فيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز و بارك و كسر و أعطى التلاميذ و قال خذوا كلوا هذا هو جسدي،و أخذ الكاس و شكر و أعطاهم قائلا اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا البشارة حسب رواية متّى. 

بيخبّي الإنسان هشاشته في الدولاب، في الأدراج غالبا و في شنط السفر فوق ضهر دولاب غرفة النوم. في النيش و في الكومودينو و في التسريحة، تحت السرير و في علب الشيكولاتة الصفيح وسط الزراير و بَكرات الخيط و إيصال الكهربا و الإبَر من كُل اتجّاه. عبر ممر ضيّق بيعدّي النور عشان يكشف العتمة، و بالعكس، بتمرّ العتمة تبقّع النور. بنحلم.

تحت القُبّعات، و الملابس الواسعة، و تسريحة الشعر القصير، و بالتأكيد الكاميرا، و بالتأكيد عادات و تصرفات قاسية و مقلقة. أقفال هنا، أقفال هناك.كانت بتستخبّى هشاشة فيفيان.

خلف الوجه الصارم، و الصوت القاسي، مشية (عسكرية) اتوصفت بيها، كانت عذوبة و مرح و لين نقدر نشوفهم بتجلّي في صورها. باشوف علامة الاستفهام دايما في تكوين بورتيهاتها الشخصية و كإنها طول الوقت كانت بتوجه الكاميرا لنفسها، علامة الاستفهام الدائرية المنحنية الأنثوية، لنفسها.

كاميرا فيفيان كانت تنظيم لسطوع العالم حدّ الاحتراق. 


Vivian Maier, Self-portrait (1986). © Vivian Maier/Maloof Collection.

من فترة، بدأت أمارس (التأمل) كتدريب على التركيز و رؤية أكتر توازنا للواقع. كنت بالزم نفسي بالبحث عن أسباب للامتنان، جوانب مضيئة في الظلام. انتهى بي الحال إني باشكر كل المجانين المساكين المختلين اللي وجّهوا الخناجر لقلبي. مش لأي شيء من الحكمة، لكن شكري ليهم من عميق كراهيتي ليهم، لإنهم خلّوا حساسيتي للسطوع أكثر، و لتدرجات و تفاوتات السلوك الإنساني. نتوجه بالشكر لكل الجراثيم على تدريب جهاز مناعة أفضل، حتّى لو بدأ يهاجم نفسه! 

لو..؟ 

نوفمبر 2008 

ما وقعتش فيفيان ماير على الجليد، ما اتزحلقتش، و بالتالي ما اتخبططش. هي كان شكلها إيه و هي عجوز؟ ليه ما شوفتش أي صورة ليها بعد التمانينيات؟ ما حدش صوّر فيفيان ماير؟ ما حدش أقدم على مبادلتها اللقطة باللقطة و اللحظة باللحظة؟

لو الملابسات كلها مشيت زي ما رتّبت ليها فيفيان، كنا فعلا عمرنا ما عرفناها؟

الطفرة/الصدفة كانت أقوى كالعادة. بس هل فيه طريقة نقدر نتأكد بيها من دا؟

فيه كام فنان عظيم عاش و مات و العالم ما عرفوش لإنه ما نشرش؟ أو لإنه ما حظاش بدعم أو احتواء؟

و ليه العالم بيكرر نمط ( أوقات كتير) هو شهرة الفنانين العظماء بعد وفاتهم.  

ليه فيفيان أصلا ما سعتش للشهرة و عرض أعمالها على الغير؟ هل ممكن إنها كانت شاكّة في جودته؟

لو هي مش مخلصة أو خايفة من الكاميرا كدا، إيه اللي يخليها تفضل بالالتزام المذهل دا طول السنين دي؟

النهاية؟

العالم العايش على الاستهلاك و التنافس شايف لكل شيء (إمكانية) للاستغلال، حتى لو الأمور مباشرة و بسيطة. يمكن الغموض و الغرابة اللي في حياة فيفيان، في عينينا، مش غرابة و غموض و مش عائق بالمرة، بدليل حياتها البسيطة و عملها البسيط اللي ما حاولتش تغيّره. يمكن الدنيا بسيطة و مباشرة. يمكن الإجابة قدّام عيوننا كالآتي:

آه. فيفيان ماير استمتعت بحياتها البسيطة، استمتعت بالكاميرا/ت و الأفلام و التصوير و تجميع الصحف و التذكارات. مش لازم دايما يكون فيه أحلام كبيرة و تنافس. مش كل الناس عندها النقص و الرغبة المريضة أحيانا للتفوّق و الظهور و التعرّض. من غير عُقد، من غير صدمات. وارد. مجرّد (حب) لممارسة الفنّ، من غير الفذلكة، من غير حتى ما نسعى لتسميته (فنّ). نتمنّى كلنا نعيش في عالم كل أفراده فنانين بشكل ما. بينحتوا و يمثلوا و يغنّوا و يحترفوا النجارة و الحدادة و السباكة. دي فنون. نكون جميعا مُلوّنين و مش بالضرورة كلنا نكون (فاقعين). مش لازم أشارك العالم (الناس) ما أفعل، على قد ما المشاركة تكون بمعنى (الفعل) و الاشتراك و الشروع في الفعل.

يمكن يكون كل اللي محتاجه الإنسان هو الخلق، التجدد. يمكن يكون دا صُلب تمثّل الوعي بأكتر شكل مباشر. وعيي بالوحدة، بالشك، بيقيني من الموت، و بعدم يقيني من ما بعده. وعيي بالنهاية، وعي الإنسان إنه دايما فيه نهاية، و إنه حتى الآن_و يمكن دا لحسن الحظ_ مفيش مخرج من النهاية، مفيش مخرج من النفق دا، غير محاولة دؤوبة للحركة للأمام، لأعلى. يمكن هو دا (المعنى) الوحيد الممكن.

باقول (يمكن) لإنّي مش (هيّ)، مش فيفيان دوروثي ماير. و هي مش أنا، مش (أحمد)(علي). الأمر الوحيد اللي بنتشاركه هو حبّ للصور، للعالم رغم الرعب منه، و الحذر و الشك في معنى كل شيء. و رغم ذلك/، بنقرا الأخبار و الكتب و بنستمع للمزّيكا و بنصوّر. بنحن و بننهزم ( بشكل نهائي أحيانا). غيرنا ممكن يقوم بعد ما بيقع.

يمكن حاجة الكائنات الحيّة كلها لنقل جيناتها و توريثها لجيل جديد دا هدفها و رغبتها و مسعاها. إدارك الجسيمات الذرية و الخلايا لمعنى وجودها و حياتها: الحضور و الحركة و نقل المحاولة دي للي بعدنا، و لو ما انتقلتش عن طريقنا لا داعي حقيقي للقلق، لإنه بشكل أو بآخر الحياة حدثت، و هتحدُث. الوجود كله حصل بعد انفجار كبير و جميل. مسيره ينكمش و يلفّ تاني للعدم دُرّ، حيث لم يكن أي من هذا حادث بالفعل.

Vivian Maier, Self-portrait (1978). Photograph: © Vivian Maier/Maloof Collection.

حلم

نفسي أسافر، جوه مصر، و برّاها. نفسي أروح المغرب و تونس و سورية و فلسطين و الأردن. نفسي أزور أميركا اللاتينية. بافتكر حلم آندي دوفراين في الخلاص من شوشانك في امتلاك مركب و منزل في قرية بحريّة. إمتى هيحصل دا؟ و إزاي؟ و مع مين؟ ما اعرفش. مُهمّ إن الإنسان يحاول و ما يتوقفش عن المحاولة، بس في رأيي الأهمّ إنه الإنسان ما يتوقفش عن الحلم، حتى و هو بيموت. يحلم بخلود، و باستمرارية، و أبديّة من نوع ما،  فيها خبز، فيها ملح، فيها رضا*.

تيم روبنز في الخلاص من شوشانك

هوامش

*،**،*** النطق الفرنسي للأسماء.

**** إشارة لأغنية  إيه فيه أمل من كلمات و ألحان زياد الرحباني و غناء الست فيروز من ألبوم  الله كبير. 

مصادر 

English:

-  Finding Vivian Maier (Documentary) ,2013. Directed by: John Maalof and Charlie Siskel.

-  John Maalof Collection of Vivian Maier: https://shorturl.at/iuADF.

- Photo exhibition at Bozar: Vivian Maier. The Self-Portrait and its Double:  https://shorturl.at/ABES3 .

- The Biggest Lie Social Media Feeds Photographers : https://www.youtube.com/watch?v=PndV7QfWKTI.

- An episode about Vivian Maier in “The art of Photography” by Ted Forbes: https://www.youtube.com/watch?v=66oDaqgdTyI.

- Vivian Maier: The Color Work. Book by Colin Westerbeck.

- Howard Greenberg Gallery: https://shorturl.at/ghsZ5.

- When Was the Camera Invented? : https://shorturl.at/lOTUZ.

- The word “ Camera” etymology: https://shorturl.at/amryP.

- Carl Gustav Jung Wikipedia page: https://shorturl.at/uJLW5.

- The Jungian Shadow: https://shorturl.at/fpty6.

- René Magritte Wikipedia page: https://shorturl.at/celq4 .

- Surrealism  Wikipedia page: https://shorturl.at/inuQ8.

- René Magritte Artworks : https://shorturl.at/lqJU5.

- The Shawshank Redemption (Movie), 1994. Directed by: Frank Darabont.

- La Cérémonie (Movie), 1995. Directed by: Claude Chabrol.

عربي:

 

- مقال أو تدوينة الفقراء أولًا يا ولاد الكلب للصحفي الراحل محمد أبو الغيط:  

https://shorturl.at/efDRT.

-  الإنجيل بحسب رواية متّى:

https://shorturl.at/iNPS8