الاثنين، 5 مايو 2014

سِفر العدد .

ا
زمان كان عندي هواية غريبة نوعاً ما، و غرابتها النوعيّة منشأها ماهوش الاختيار، إنّما نتيجة حتيمة لقلة الحيلة. كنت باجمّع أوراق النتايج، نتايج الحايط، بشكل يومي أحياناً، دوري دائماً و مُنتَظِم، كان الموضوع شديد الطقسيّة في نفس الوقت اللي كان شاغفني للغاية. صحيح في الفترة دي من عُمري ( من حداشر لتلاتّاشر سنة ) كانت لديّ عادات تجميع كتير، و غريبة أيضاً، ما بتحويش جمع مجلّات ولا طوابع و لا عُملات. لكنّما النشاط التجميعي الرئيس كان هوّ نشاط تجميع ورق نتايج الحايط، و الاحتفاظ بها و من ثمّ ترتيبها زمنياً كنوع من أنواع اللغز اللي ياكل وقت الفراغ، و يجور على الوقت الأصلي. كنّا _ أنا و أختي _ بنتعامل بيه _ ورق النتايج _ كورق نقدي/بيتي في تمثيليّاتنا شبه اليوميّة اللي كانت من تأليفي و إخراجي و تمثيلي أنا و هي.

ب
لسبب ما في نفس يعقوب فضّل يوسف، و لسبب ما في بطن الشاعر ما عرفناش حاجة عن أمّ يوسف، و لخللِ ما في عقل الخضر خرق السفينة بدال خرق عين الملك الغاصب، و لغاية ما في قلب الله جعل أبويا  بيصادر على هوايات التجميع البسيطة، الحقّ لله لم يكن يصادر على هوايات التجميع و يترك ما عداها، كانَ لا يُبقي و لا يذر. حملات المُصادرة كانت دورية دائماً و مش يوميّة إطلاقاً، و بانتظام يُقارب الصرامة و لا يدخلها باليمين، انتظام متأرجح من حديد، يؤكد ليك إنّ السيّد الوالد كان الأمر لديه هوّ هواية أيضاً، و لحسن حظّ الحواديت فكانت هوايته مقلوب هوايتي، أو هوايتي مقلوب هوايته أيّنا بدأ في الجمع أو الطرح. فيه احتمال إن يكون كون مصادرته هواياتي هواية أمر أدبي بحت، لكنّ الأكيد إنه مش أمر _ فعله _ أبوي أيضاً، لإنه الأفعال الأدبية معلومة المصدر و المصبّ. أوّل دليل إن المصادرة ما كانتش يوميّة، و التاني إنه مفيش مرّة حوِت حملاته التطهيريّة أي درس أخلاقي منطوق، من قَبيل الدروس المُستفادة من القهر، باعتبار إنّ فِعلي بالتجميع شيء مش حضاري، أو غير مؤدّب على سبيل المثال لا الحصر، أو إنّ الورق دا هوّ وقود دخولي جهنّم في الآخر و يصوّر لي عملية إشعالي بورق الحايط في جهنّم زي السمك الشبار في الفُرن الصاج، و هو عارف إنّي باكره الحرّ و السمك، فكان احتمال إنّي أدخل في التجربة تاني أقرب للاستحالة، بدون أي خسائر في الأرواح. لكنّ لأ، المُصادرة ما غيّرتش تكنيكاتها إطلاقاً بالضرب و الحرمان و التهشيم و الحرق، و الأسباب ظلّت مجهولة.
في بدايات مُحاولات فهمي لتصرّفات أبويا سألت كالعادة عن الجدوى، إيه اللاأخلاقي فيّا؟ شاركت أمّي في نفس الحملات التطهيرية فكان السؤال صاعين. أشهر واقعة مُصادرة ما كانتش على ورق، كانت على قلم جافّ خلصان بتكّاية و مكسور و أزرق، كنت باحشر فيه طباشيرة و أعيد تدويره كوسيلة للكتابة. في خناقة بين أبويا و أختي أبويا جَه احتدّ عليا أنا و رما القلم. أنضج استنتاجاتي و أكثرها تطورا ( دا مش حقيقي لكن واقع ) إنها _ كما أعتقد أو أحاول _ محاولة استماتت من أبويا على التدريب على الفقد، عمليات الطرح بالاستلاف، القسمة المطوّلة ، و الاضطرار للتعامل مع البشر. العنف كان الوسيلة الوحيدة الناجعة أكيدة المفعول طبعاً للتعويد على القتلى و خسائر الأرواح و الجثث، الفقر و الوحدة، كل المعاني سوالب المعاني، حاول أبويا جعلي واقعياً قدر إمكانه، و نجح.

ج
لو تعرف عدد السبح اللي عند والدي! صحيح ولا أيّ منهنّ أصليّ أو عتيق، لإنهنّ كلهنّ مجاملات أصدقاء موسم الحجّ المبرور و العُمرة المُباركة. افتتان أبويا بالسبح لا يضاهيه و يغلبه و يقهره تماماً إلا بجمع الكروت الشخصية و إمساكيات رمضان. في الدولاب، فيه ضرفة، مكتبة صغيرة هيّ، و أدراج، مكتظّة بالكروت الشخصية، كروت الأفراح، الإمساكيّات، السبح و خلافه. كروت مُدرسين، مقرئين، عمال و فلاحين، محامين و أصحاب أفران و فراشات، حتّى الراجل اللي اترشّح للرئاسة _ وهوّ صنايعي كوافير حريمي _ من عندنا في الشارع محتفظ بكروته. ما حاولتش أسأله أيّ مرة عن حبه لتجميعهم و حرصه على ترتيبهم و نظافتهم و عدم ضياع أيّ منهم.

د

من فترة طويلة تخلّصت من تجميعي لكل حاجة، تقريباً، باستثناء زهر الطاولة و  جَمع أرقام العربيّات، و كفى.